خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً
٤٨
وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً
٤٩
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً
٥٠
-الكهف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكر سبحانه حشرهم، وكان من المعلوم أنه للعرض، ذكر كيفية ذلك العرض، فقال بانياً الفعل للمفعول عل طريقة كلام القادرين، ولأن المخوف العرض لا كونه من معين: { وعرضوا على ربك } أي المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك { صفاً } لاتساع والمسايقة إلى داره، لعرض أذل شيء وأصغره، وأطوعه وأحقره، يقال لهم تنبيهاً على مقام العظمة: { لقد جئتمونا } أحياء سويين حفاة عراة غرلاً { كما خلقناكم } بتلك العظمة { أول مرة } منعزلين من كل شيء كنتم تجمعونه وتفاخرون به منقادين مذعنين فتقولون { { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } [يس: 52] فيقال لكم: { بل زعمتم } أي ادعيتم جهلاً بعظمتنا { أن } أي أنا { لن نجعل لكم } على ما لنا من العظمة { موعداً * } أي مكاناً ووقتاً نجمعكم فيه هذا الجمع فننجز ما وعدناكم به على ألسنة الرسل { ووضع } بأيسر أمر بعد العرض المستعقب للجمع بأدنى إشارة { الكتاب } المضبوط فيه دقائق الأعمال وجلائلها على وجه بيِّن لا يخفى على قارىء ولا غيره شيء منه { فترى المجرمين } لتقر عينك منهم بشماتة لا خير بعدها { مشفقين مما فيه } من قبائح أعمالهم، وسيىء أفعالهم وأقوالهم أي خائفين دائماً خوفاً عظيماً من عقاب الحق والفضيحة عند الخلق { ويقولون } أي يجددون ويكررون قولهم: { ياويلتنا } كناية عن أنه لا نديم لهم إذ ذاك إلا الهلاك { مال هذا الكتاب } أي أي شيء له حال كونه على غير حال الكتب في الدنيا، ورسم لام الجر وحده إشارة إلى أنهم صاروا من قوة الرعب وشدة الكرب يقفون على بعض الكتب، وفسروا حال الكتاب التي أفظعتهم وسألوا عنها بقولهم: { لا يغادر } أي يترك أي يقع منه غدر، أي عدم الوفاء وهو من غادر الشيء: تركه كأن كلاًّ منهما يريد غدر الآخر، أي عدم الوفاء به، من الغدير - لقطعة من الماء يتركها السيل كأنه لم يوف لهما بأخذ ما معه، وكذا الغديرة لناقة تركها الراعي { صغيرة } أي من أعمالنا.
ولما هالهم إثبات جميع الصغائر، بدؤوا بها، وصرحوا بالكبائر - وإن كان إثبات الصغائر يفهمها - تأكيداً لأن المقام للتهويل وتعظيم التفجع، وإشارة إلى أن الذي جرهم إليها هو الصغائر - كما قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه - فقالوا: { ولا كبيرة إلا أحصاها } ولما كان الإحصاء قد لا يستلزم اطلاع صاحب الكتاب وجزاءه عليه، نفى ذلك بقوله تعالى: { ووجدوا ما عملوا حاضراً } كتابة وجزاء من غير أن يظلمهم سبحانه أو يظلم من عادوهم فيه { ولا يظلم ربك } الذي رباك بخلق القرآن { أحداً * } منهم ولا من غيرهم في كتاب ولا عقاب ولا ثواب، بل يجازى الأعداء بما يستحقون، تعذيباً لهم وتنعيماً لأوليائه الذين عادوهم فيه للعدل بينهم؛ روى الإمام أحمد في المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سافر إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه مسيرة شهر فاستأذن عليه قال: فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، قلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت قبل أن أسمعه، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول:
" "يحشر الله عز وجل الناس - أو قال: العباد - حفاة عراة بهما قلت: وما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند أحد من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، قال: قلنا: كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات" .
ولما ذكر البعث وختمه بإحسانه بالعدل المثمر لإعطاء كل أحد ما يستحقه، أتبعه - بما له من الفضل - بابتداء الخلق الذي هو دليله، في سياق مذكر بولايته الموجبة للإقبال عليه، وعداوة الشيطان الموجبة للإدبار عنه، مبين لما قابلوا به عدله فيهم وفي عدوهم من الظلم بفعلهم كما فعل من التكبر على آدم عليه السلام بأصله، فتكبروا على فقراء المؤمنين بأصلهم وأموالهم وعشائرهم، فكان فعلهم فعله سواء، فكان قدوتهم وهو عدوهم، ولم يقتدوا بخير خلقه وهو وليهم وهو أعرف الناس به، فقال تعالى عاطفاً على { واضرب }: { وإذ } أي واذكر لهم إذ { قلنا } بما لنا من العظمة { للملائكة } الذين هم أطوع شيء لأوامرنا وإبليس فيهم، قال ابن كثير: وذلك أنه كان قد ترسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك، ولهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة { اسجدوا لآدم } أبيهم نعمة منا عليه يجب عليهم شكرنا فيها { فسجدوا } كلهم { إلا إبليس } فكأنه قيل: ما له لم يسجد؟ فقيل: { كان } أي لأنه كان { من الجن } المخلوقين من نار، ولعل النار لما كانت نيرة وإن كانت نورانيتها مشوبة بكدورة وإحراق، عد من الملائكة لاجتماع العنصرين في مطلق النور، مع ما كان غلب عليه من العبادة، فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان - وفي رواية: إبليس - من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" . وفي مكائد الشيطان لابن أبي الدنيا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الجن كانت قبيلة من الملائكة.
ولما كان أكثر الجن مفسداً، رجوعاً إلى الأصل الذي هو النار المحرقة لما لاصقها، المفسدة له، سبب فسقه عن كونه منهم فقال تعالى: { ففسق } أي خرج، يقال: فسقت الفأرة من حجرها - إذا خرجت للعيث والفساد. { عن أمر ربه } أي سيده ومالكه المحسن إليه بإبداعه، وغير ذلك من اصطناعه، في شأن أبيكم، إذ تكبر عليه فطرده ربه من أجلكم، فلا تستنوا به في الافتخار والتكبر على الضعفاء، فإن من كانت خطيئته في كبر لم يكن صلاحه مرجواً، ومن كانت خطيئته في معصية كان صلاحه مرجواً، ثم سبب عن هذا ما هو جدير بالإنكار فقال تعالى في أسلوب الخطاب لأنه أدل على تناهي الغضب وأوجع في التبكيت، والتكلم لأنه أنص على المقصود من التوحيد: { أفتتخذونه } أي أيفسق باستحقاركم فيطرده لأجلكم فيكون ذلك سبباً لأن تتخذوه { وذريته } شركاء لي { أولياء } لكم { من دوني } أي اتخاذاً مبتدئاً من غيري أو من أدنى رتبة من رتبتي، ليعم الاتخاذ استقلالاً وشركة، ولو كان المعنى: من دون - أي غير - اتخاذي، لأفاد الاستقلال فقط، ولو كان الاتخاذ مبتدئاً منه بأن كان هو الآمر به لم يكن ممنوعاً، وأنا وليكم المفضل عليكم { وهم لكم } ولما كان بناء فعول للمبالغة ولا سيما وهو شبيه بالمغالاة في نحو القول، أغنى عن صيغة الجمع فقال: { عدو } إشارة إلى أنهم في شدة العداوة على قلب واحد. ولما كان هذا الفعل أجدر شيء بالذم، وصل به قوله تعالى: { بئس } وكان الأصل: لكم، ولكنه أبرز هذا الضمير لتعليق الفعل بالوصف والتعميم فقال تعالى: { للظالمين بدلاً * } إذا استبدلوا من ليس لهم شيء من الأمر وهم لهم عدو بمن له الأمر كله وهو لهم ولي.