خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً
٥٣
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً
٥٤
وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً
٥٥
وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً
٥٦
-الكهف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما قرر سبحانه ما لهم مع شركائهم، ذكر حالهم في استمرار جهلهم، فقال تعالى: { ورءا المجرمون } أي العريقون في الإجرام { النار } أي ورأوا، ولكنه أظهر للدلالة على تعليق الحكم بالوصف { فظنوا } ظناً { أنهم مواقعوها ولم } أي والحال أنهم لم { يجدوا عنها مصرفاً * } أي مكاناً ينصرفون إليه، فالموضع موضع التحقق، ولكن ظنهم جرياً على عادتهم في الجهل كما قالوا { اتخذ الله ولداً } [ الكهف: 4] بغير علم { { وما أظن أن تبيد هذه أبداً } [ الكهف: 35]، { { وما أظن الساعة قائمة } [الكهف: 36]، { إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين } [الجاثية: 32] مع قيام الأدلة التي لا ريب فيها.
ولما كان الكلام في قوة أن يقال: صرفنا هذه الأخبار بما أشارت إليه من الأسرار الكبار، فقامت دلائل الشريعة الجلائل، وأضاءت بها جواهر المعاني الزواهر، عطف على ذلك: { ولقد صرفنا } أي بما لنا من العظمة. ولما كانت هذه السورة في وصف الكتاب، اقتضى الاهتمام به تقديمه في قوله تعالى: { في هذا القرءان } أي القيم الذي لا عوج فيه، مع جمعه للمعاني ونشره الفارق بين الملبسات { للناس } أي المزلزلين فضلاً عن الثابتين { من كل مثل } أي حوّلنا الكلام وطرقناه في كل وجه من وجوه المعاني وألبسناه من العبارات الرائقة، والأساليب المتناسقة، ما سار بها في غرابته كالمثل، يقبله كل من يسمعه، وتضرب به آباط الإبل في سائر البلاد، بين العباد، فتبشر به قلوبهم، وتلهج به ألسنتهم، فلم يتقبلوه وجادلوا فيه؛ ثم نبه على الوصف المقتضي لذلك بقوله تعالى: { وكان الإنسان } الذي جعل خصيماً وهو آنس بنفسه جبلة وطبعاً { أكثر شيء } وميز الأكثرية بقوله تعالى: { جدلاً * } لأنه لم ينته عن الجدل بعد هذا البيان، الذي أضاء جميع الأكوان.
ولما بين إعراضهم، بين موجبه عندهم فقال: { وما منع } ولما كان الناس تبعاً لقريش قال: { الناس } أي الذين جادلوا بالباطل، الإيمان - هكذا كان الأصل، ولكنه عبرعن هذا المفعول الثاني بقوله تعالى: { أن يؤمنوا } ليفيد التجديد وذمهم على الترك { إذ } أي حين { جاءهم الهدى } بالكتاب على لسان الرسول، وعطف على المفعول الثاني - معبراً بمثل ما مضى لما مضى - قولَه تعالى: { ويستغفروا ربهم } أي المحسن إليهم.
ولما كان الاستثناء مفرغاً، أتى بالفاعل فقال تعالى: { إلا أن } أي طلب أن { تأتيهم سنة الأولين } في إجابتهم إلى ما اقترحوه على رسلهم، المقتضي للاستئصال لمن استمر على الضلال، ومن ذلك طلبهم أن يكون النبي ملكاً، وذلك نقمة في صورة نعمة وإتيان بالعذاب دبراً، أي مستوراً { أو } طلب أن { يأتيهم العذاب قبلاً * } أي مواجهة ومعاينة ومشاهدة من غير ستر له، هو في قراءة من كسر القاف وفتح الباء واضح، من قولهم: لقيت فلاناً قبلاً، أي معاينة، وكذا في قراءة من ضمهما، من قولهم: أنا آتيك قبلاً لا دبراً، أي مواجهة من جهة وجهك لا من جهة قفاك، قال تعالى:
{ { إن كان قميصه قدَّ من قبل } [ يوسف: 26]، ويصح أن يراد بهذه القراءة الجماعة، لأن المراد بالعذاب الجنس أي يأتيهم أصنافاً مصنفة صنفاً ونوعاً نوعاً، وقد مضى في الأنعام بيانه، وهذا الشق قسيم الإتيان بسنة الأولين، فمعناه: من غير أن يجابوا إلى ما اقترحوا كما تقدم في التي قبلها { { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وقالوا لن نؤمن لك } [الإسراء:89-90] - إلى قوله تعالى: { { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } [الإسراء: 92] الآية وهذه الآية من الاحتباك: ذكر { سنة الأولين } أولاً يدل على ضدها ثانياً، وذكر المكاشفة ثانياً يدل على المساترة أولاً.
ولما كان ذلك ليس إلى الرسول، إنما هو إلى الإله، بينه بقوله تعالى: { وما نرسل } على ما لنا من العظمة التي لا أمر لأحد معنا فيها { المرسلين إلا مبشرين } بالخير على أفعال الطاعة { ومنذرين } بالشر على أفعال المعصية، فيطلب منهم الظالمون من أممهم ما ليس إليهم من فصل الأمر { ويجادل الذين كفروا } أي يجددون الجدال كلما أتاهم أمر من قبلنا { بالباطل } من قولهم: لو كنتم صادقين لأتيتم بما نطلب منكم، مع أن ذلك ليس كذلك لأنه ليس لأحد غير الله من الأمر شيء { ليدحضوا } أي ليزلقوا فيزيلوا ويبطلوا { به الحق } الثابت من المعجزات المثبتة لصدقهم.
ولما كان لكل مقام مقال، ولكل مقال حد وحال، فأتى في الجدال بصيغة الاستقبال، وكان اتخاذ الاستهزاء أمراً واحداً، أتى به ماضياً فقال تعالى: { واتخذوا } أي كلفوا أنفسهم أن أخذوا { ءاياتي } بالبشارات التي هي المقصودة بالذات لكل ذي روح { وما أنذروا } من آياتي، بني للمفعول لأن الفاعل معروف والمخيف الإنذار { هزواً * } مع بعدهما جداً عن ذلك، فلا بالرغبة أطاعوا، ولا للرهبة ارتاعوا، فكانوا شراً من البهائم.