خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً
٢٦
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً
٢٧
يٰأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً
٢٨
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً
٢٩
قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً
٣٠
وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً
٣١
وَبَرّاً بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً
٣٢
وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً
٣٣
-مريم

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان من المعلوم أنها هزت فتساقط الرطب، سبب عنه قوله: { فكلي } أي فتسبب عن الإنعام عليك بالماء والرطب أن يقال لك تمكيناً من كل منهما كلي من الرطب { واشربي } من ماء السرى { وقري } أي استقري { عيناً } بالنوم، فإن المهموم لا ينام، والعين لا تستقر ما دامت يقظى، وعن الأصمعي أن المعنى: ولتبرد دمعتك، لأن دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارة، واشتقاق "قري" من القرور، وهو الماء البارد - انتهى.
وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه: وحكى الفراء أن قريشاً ومن حولهم يقولون: قررت به عيناً - أي بكسر العين - أقر، وأن أسداً وقيساً وتميماً يقولون: قررت به عيناً - أي بالفتح - أقر، قال - يعني الفراء: فمن قال: قررت - أي بالكسر - قراً، وقرى عيناً - أي بالفتح، وهي القراءة المعروفة، ومن قال: قررت، - أي بالفتح قراً وقري عيناً - بكسر القاف أي وهي الشاذة، قال - أي القزاز: هي لغة كل من لقيت من أهل نجد، والمصدر قرة وقرور.
وسيأتي في القصص ما ينفع هنا، وهو على كل حال كناية عن طيب النفس وتأهلها لأن تنام بالكفاية في الدنيا بطعام البدن وغذاء الروح بكونه آية باهرة، والآخرة بالكرامة وذلك على أنفع الوجوه، قيل: ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل؛ ثم سبب عن ذلك قوله مؤكداً إيذاناً بأن أكثر رؤيتها في تلك الأوقات الملائكة عليهم السلام { فإما ترين } أي يا مريم { من البشر أحداً } لا تشكين أنه من البشر ينكر عليك { فقولي } لذلك المنكر جواباً له مع التأكيد تنبيهاً على البراءة لأن البريء يكون ساكناً لاطمئنانه والمرتاب يكثر كلامه وحلفه: { إني نذرت للرحمن } أي الذي عمت رحمته فأدخلني فيها على ضعفي وخصني بما رأيت من الخوارق { صوماً } أي صمتاً ينجي من كل وصمة وإمساكاً عن الكلام { فلن } أي فتسبب عن النذر أني لن { أكلم اليوم إنسياً * } فإن كلامي يقبل الرد والمجادلة ولكن يتكلم عني المولود الذي كلامه لا يقبل الدفع، وأما أنا فأنزه نفسي عن مجادلة السفهاء فلا أكلم إلا الملائكة أو الخالق بالتسبيح والتقديس وسائر أنواع الذكر، قالوا: ومن أذل الناس سفيهاً لم يجد مسافهاً، ومن الدلالة عليه بالصمت عن كلام الناس مع ما تقدم الإشارة إلى أنه ردع مجرد { فأتت } أي فلما سمعت هذا الكلام اشتد قلبها، وزال حزنها، وأتت { به } أي بعيسى { قومها } وإن كان فيهم قوة المحاولة لكل ما يريدونه إتيان البريء الموقن بأن الله معه { تحمله } غير مبالية بأحد ولا مستخفية فكأنه قيل: فما قالوا لها؟ فقيل: { قالوا يا مريم } ما هذا؟ مؤكدين لأن حالها في إتيانها يقتضي إنكار كلامهم { لقد جئت } بما نراه { شيئاً فرياً * } قطيعاً منكراً { ياأخت هارون } في زهده وورعه وعفته وهو صالح كان في زمانها أو أخو موسى عليه السلام { ما كان أبوك } أي عمران ساعة من الدهر { امرأ سوء } لنقول: نزعك عرق منه { وما كانت أمك } في وقت من الأوقات { بغياً * } أي ذات بغي أي عمد لتتأسى بها { فأشارت } امتثالاً لما أمرت به { إليه } أي عيسى ليكلموه فيجيب عنها { قالوا كيف نكلم } يا مريم { من كان في المهد } أي قبيل إشارتك { صبياً * } لم يبلغ سن هذا الكلام، الذي لا يقوله إلا الأكابر العقلاء بل الأنبياء والتعبير بـ "كان" يدل على أنه حين الإشارة إليه لم يحوجهم إلى أن يكلموه، بل حين سمع المحاورة وتمت الإشارة بدا منه قوله خارق لعادة الرضعاء والصبيان، ويمكن أن تكون تامة مشيرة إلى تمكنه في حال ما دون سن الكلام، ونصب { صبياً } على الحال، فلما كانت هذه العبارة مؤذنة بذلك استأنف قوله: { قال } أي واصفاً نفسه بما ينافي أوصاف الأخابث، مؤكداً لإنكارهم أمره فقال: { إني عبد الله } أي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لا أتعبد لغيره، إشارة إلى الاعتقاد الصحيح فيه، وأنه لا يستعبده شيطان ولا هوى { ءاتاني الكتاب } أي التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الصحف على صغر سني { وجعلني } أي في علمه { نبياً * } ينبىء بما يريد في الوقت الذي يريد، وقيل في ذلك: فانبئكم به { وجعلني مباركاً } بأنواع البركات { أين ما } في أي مكان { كنت } فيه.
ولما سبق علمه سبحانه أنه يدعي في عيسى الإلهية أمره أن يقول: { وأوصاني بالصلاة } له طهرة للنفس { والزكاة } طهرة للمال فعلاً في نفسي وأمراً لغيري { ما دمت حياً } ليكون ذلك حجة على من أطراه لأنه لا شبهة في أن من يصلي لإله ليس بإله { وبراً } أي وجعلني براً، أي واسع الخلق طاهره.
ولما كان السياق لبراءتها فبين الحق في وصفه، صرح ببراءتها فقال: { بوالدتي } أي التي أكرمها الله بإحصان الفرج والحمل بي من غير ذكر، فلا والد لي غيرها { ولم يجعلني جباراً شقياً * } بأن أفعل فعل الجبارين بغير استحقاق، إنما أفعل ذلك بمن يستحق، وفيه إيماء إلى أن التجبر المذموم فعل أولاد الزنا، وذلك أنه يستشعر ما عنده من النقص فيريد أن يجبره بتجبره، ثم أخبر بما له من الله من الكرامة الدائمة مشيراً إلى أنه لا يضره عدو، وإلى أنه عبد لا يصلح أن يكون إلهاً وإلى البعث فقال: { والسلام } أي جنسه { عليَّ } فلا يقدر أحد على ضرري { يوم ولدت } فلم يضرني الشيطان ومن يولد لا يكون إلهاً { ويوم أموت } كذلك أموت كامل البدن والدين، لا يقدر أحد على انتقاصهما مني كائناً من كان { ويوم أبعث حياً * } يوم القيامة كما تقدم في يحيى عليه السلام، إشارة إلى أنه في البشرية مثله سواء لم يفارقه أصلاً إلا في كونه من غير ذكر، وإذا كان جنس السلام عليه كان اللعن على أعدائه، فهو بشارة لمن صدقة فإنه منه، ونذارة لمن كذبه، ولم يكن لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثل هذه الخارقة لئلا يلتبس حاله بالكهان، لأن قومه لا عهد لهم بالخوارق إلا عندهم، وإذا تقرر ذلك في نفوسهم من الصغر صعب زواله، ولم يكن هناك ما ينفيه حال الصغر، فعوض عن ذلك إنطاق الرضعاء كمبارك اليمامة وغيره، وإنطاق الحيوانات العجم، بل والجمادات كالحجارة وذراع الشاة المسمومة والجذع اليابس وغيرها.