خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً
٥٦
وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً
٥٧
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَٱجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ ٱلرَّحْمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً
٥٨
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً
٥٩
-مريم

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان إسماعيل عليه السلام قد رفع بالسكنى حياً إلى أعلى مكان في الأرض رتبة، وكان أول نبي رمى بالسهام، وكان إدريس عليه السلام - مع رفعته إلى المكان العلي - أول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار، وأول من نظر في علم النجوم والحساب، وخط بالقلم، وخاط الثياب ولبس الجبة وكان أغربهم قصة، وأعجبهم أمراً، وأقدمهم زمناً، ختم به هذه القصص تأييداً لهذا النبي الكريم، بما بين له من القصص التي هي أغرب مما أمر اليهود بالتعنت فيه، وإشارة إلى أن الله تعالى يؤتي أتباعه من علوم إدريس الأرضية والسماوية مما يستحق أن يحفظ بالخط ويودع بطون الكتب لضيق الصدور عن حفظه ما لم يؤته أمة من الأمم، وأنه يجمع شملهم، وترهيباً للمتعنتين بأنهم إن لم ينتهوا وضع فيهم السلاح كما فعل إدريس عليه السلام بكفار زمانه فقال: { واذكر في الكتاب } أي الجامع لكل ما يحتاج إليه من القصص المتقدمين والمتأخرين { إدريس } أي الذي هو أبعد ممن تعنت بهم اليهود زماناً، وأخفى منهم شأناً، وهو جد أبي نوح عليه السلام واسمه حنوخ بمهملة ونون وآخره معجمة { إنه كان صديقاً } أي صادقاً في أقواله وأفعاله، ومصدقاً بما أتاه عن الله من آياته على ألسنة الملائكة { نبياً * } ينبئه الله تعالى بما يوحيه إليه من الأمر العظيم، رفعة لقدره، فينبىء به الناس الذين أرسل إليهم { ورفعناه } جزاء منا له على تقواه وإحسانه، رفعة تليق بعظمتنا، فأحللناه { مكاناً علياً * } أي الجنة أو السماء الرابعة، وهي التي رآه النبي صلى الله عليه وسلم بها ليلة الإسراء؛ قال ابن قتيبة في المعارف: وفي التوراة أن أخنوخ أحسن قدام الله فرفعه إليه - انتهى. وفي نسخة ترجمه التوراة وهي قديمة جداً وقابلتها مع بعض فضلاء الربانيين من اليهود وعلى ترجمة سعيد الفيومي بالمعنى وكان هو القارىء ما نصه: وكانت جميع حياة حنوخ ثلاثمائة وخمساً وستين سنة، فأرضى حنوخ الله ففقد لأن الله غيبه، وفي نسخة أخرى: لأن الله قبله، وفي أخرى: لأن الله أخذه. وهو قريب مما قال ابن قتيبة، لأن أصل الكلام عبراني، وإنما نقله إلى العربي المترجمون، فكل ترجم على قدر فهمه من ذلك اللسان، ويؤيد أن المراد الجنة ما في مجمع الزوائد للحافظ نور الدين الهيثمي عن معجمي الطبراني - الأوسط والأصغر إن لم يكن موضوعاً: حدثنا محمد بن واسط ثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي ثنا حجاج بن محمد بن أبي غسان محمد بن مطرف عن زيد ابن أسلم عن عبيد الله بن أبي رافع عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إدريس عليه السلام كان صديقاً لملك الموت فسأله أن يريه الجنة والنار، فصعد بإدريس فأراه النار ففزع منها، وكاد يغشى عليه فالتف عليه ملك الموت بجناحه، فقال ملك الموت: أليس قد رأيتها؟ قال: بلى! ولم أر كاليوم قط، ثم انطلق به حتى أراه الجنة فدخلها فقال له ملك الموت: انطلق! قد رأيتها، قال: إلى أين؟ قال ملك الموت: حيث كنت، قال إدريس: لا والله! لا أخرج منها بعد إذ دخلتها، فقيل لملك الموت: أليس أنت أدخلته إياها وأنه ليس لأحد دخلها أن يخرج منها" .
وقال: لا يروى عن أم سلمة إلا بهذا الإسناد، وقال الحافظ نور الدين: إبراهيم المصيصي متروك. قلت وفي لسان الميزان لتلميذه شيخنا حافظ العصر ابن حجر عن الذهبي أنه كذاب، وعن ابن حبان أنه كان يسوي الحديث، أي يدلس تدليس التسوية. وفي تفسير البغوي عن وهب قريب من هذا، وفيه أنه سأل ملك الموت أن يقبض روحه ويردها إليه بعد ساعة، فأوحى الله إليه أن يفعل، وفيه أنه احتج في امتناعه من الخروج بأن كل نفس ذائقة الموت وقد ذاقه، وأنه لا بد من ورود النار وقد وردها، وأنه ليس أحد يخرج من الجنة، فأوحى الله إلى ملك الموت: بإذني دخل الجنة - يعني: فخلِّ سبيله - فهو حي هناك. وفي تفسير البغوي أيضاً عن كعب وغيره أن إدريس عليه السلام مشى ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال: يا رب! فكيف بمن يحملها؟ اللهم! خفف عنه من ثقلها، فخفف عنه فسأل ربه عن السبب فأخبره فسأل أن يكون بينهما خلة، فأتاه فسأله إدريس عليه السلام أن يسأل ملك الموت أن يؤخر أجله، فقال: لا يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها، وأنا مكلمه، فرفع إدريس عليه السلام فوضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى ملك الموت وكلمه فقال: ليس ذلك إليّ، ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيتقدم في نفسه، قال: نعم! فنظر في ديوانه فقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبداً، قال: وكيف ذلك؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس، قال: فإني أتيتك وتركته هناك، قال: انطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات، فوالله ما بقي من أجل إدريس - عليه السلام - شيء، فرجع الملك فوجده ميتاً. ومن جيد المناسبات أن إسماعيل وإدرس عليهما الصلاة والسلام اشتركا في البيان بالعلم واللسان، فإسماعيل عليه السلام أول من أجاد البيان باللسان، وإدريس عليه السلام أول من أعرب الخطاب بالكتاب، فقد روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أول من فتق لسانه بهذه العربية إسماعيل عليه السلام" . ولأحمد عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام" .
ولما انقضى كشف هذه الأخبار، العلية المقدار، الجليلة الأسرار، شرع سبحانه ينسب أهلها بأشرف نسبهم، ويذكر أمتن سببهم هزاً لمن وافقهم في النسب إلى الموافقة في السبب فقال: { أولئك } أي العالو الرتب، الشرفاء النسب { الذين أنعم الله } بما له من صفات الكمال التي بها أقام آدم عليه السلام وهم في ظهره، مع ما طبعه عليه من الأمور المتضادة حتى نجاه من مكر إبليس، ونجى بها نوحاً عليه السلام وهم في صلبه من ذلك الكرب العظيم، وإبراهيم عليه السلام وهم في قواه مع اضطرام النار وإطفاء السن وإصلاد العظم، وأعلى بها إسرائيل عليه السلام وبنيه في سوط الفراق وامتهان العبودية وانتهاك الاتهام حتى كان أبناؤه معدن الملوك والأنبياء، ومحل الأتقياء والأصفياء، إلى غير ذلك من جليل الأنبياء وعظيم الأصطفاء والاجتباء { عليهم } بما خصهم به من مزيد القرب إليه، وعظيم المنزلة لديه؛ وبين الموصول بقوله: { من النبيين } أي المصطفين للنبوة الذين أبنأهم الله بدقائق الحكم، ورفع محالهم بين الأمم، وأنبؤوا الناس بجلائل الكلم، وأمروهم بطاهر الشيم.
ولما كانوا بعض بني آدم الذين تقدم أنا كرمناهم، قال إشارة إلى ما في ذلك من النعمة عليهم وهم يرونها: { من ذرية ءادم } صفينا أبي البشر الذي خلقه الله من التراب بيده، وأسجد له ملائكته، وإدريس أحقهم بذلك.
ولما كان في إنجاء نوح عليه السلام وإغراق قومه من القدرة الباهرة ما لا يخفى، نبه عليه بنون العظمة في قوله مشيراً إلى أعظم النعمة عليهم بالتبعيض، وإلى أن نبيهم من ذريته كما كان هو من ذرية إدريس عليه السلام الذي هو من ذرية آدم، فكما كان كل منهم رسولاً فكذلك هو وإبراهيم أقربهم إلى ذلك: { وممن حملنا مع نوح } صفينا أول رسول أرسلناه بعد افتراق أهل الأرض وإشراكهم، من خلص العباد، وأهل الرشاد، وجعلناه شكوراً، وإبراهيم أقربهم إلى ذلك { ومن ذرية إبراهيم } خليلنا الذي كان له في إعدام الأنداد ما اشتهر به من فضله بين العباد، وإسماعيل وإسحاق أولاهم بذلك، ثم يعقوب { وإسراءيل } صفينا، وهم الباقون: موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم بنت داود - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام - فكما كان هؤلاء رسلاً وهم من ذرية إبراهيم الذي هو من ذرية نوح فكذا نبيكم الذي هو من ذرية إسماعيل الذي هو من إبراهيم لصلبه وهو أول أولاده كما كان إسرائيل من ذريته، فالإرسال من ذرية من هو ابنه لصلبه أولى من الإرسال من ذرية من بينه وبينه واسطة، وإلا كان بنو إسرائيل أشرف منكم وأبوهم أشرف من أبيكم، فلا تردوا الكرامة، يا من يتنافسون في المفاخرة والزعامة { وممن هدينا } إلى أقوم الطرق { واجتبينا } أي فعلنا بهم فعل من يتخير الشيء وينتقيه بأن أسبغنا عليهم من النعم ما يجل عن الوصف؛ وعطف الأوصاف بالواو إشارة إلى التمكن فيها.
ولما ذكر ما حباهم به، ذكر ما تسبب عن ذلك فقال مستأنفاً { إذا تتلى عليهم ءايات الرحمن } العام النعمة، فكيف بهم إذا أعلاهم جلال أو خصتهم رحمة من جلائل النعم، من فيض الجود والكرم، فسمعوا خصوص هذا القرآن { خروا سجداً } للمنعم عليهم تقرباً إليه، لما لهم من البصائر المنيرة في ذكر نعمه عليهم وإحسانه إليهم { وبكياً * } خوفاً منه وشوقاً إليه، فوصفهم بسرعة الخشوع من ذكر الله الناشىء عن دوام الخضوع والناشىء عنه الإسراع بالسجود في حالة البكاء، وجعلهما حالتين بالعطف بالواو لعراقة المتحلي بهما في كل منهما عل انفراده، وعبر بالاسم في كل من السجود والبكاء، إشارة إلى أن خوفهم دائم كما أن خضوعهم دائم لعظمة الكبير الجليل، لأن تلك الحضرة لا تغيب عنهم أصلاً، وإن حصل غير البكاء فللتأنيس لمن أرسلوا إليه ليوصلوه إلى قريب من رتبتهم بحسن عشرتهم على تفاوت المراتب، وتباين المطالب، وحذف ذكر الأذقان لدلالتها - كما تقدم في سبحان - على نوع دهشة، فهي - وإن أعلت صاحبها عمن لم يبلغها - حالة دون مقام الراسخين في حضرة الجلال، لأنهم - مع كونهم في الذروة من مقام الخوف - في أعلى درجات الكمال من حضور الفكر وانشراح الصدر - لتلقي واردات الحق وإلقائها إلى الخلق، انظر إلى ثبات الصديق رضي الله عنه - لعلو مقامه عن غيره - عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه أوفاهم من المحبة مشرباً، وأصفاهم مورداً، وأوفرهم حزناً، وأكثرهم غماً وهماً، حتى أنه اعتراه لذلك مرض السل حتى مات به وجداً وأسفاً ومن هنا تعلم السر في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم الأنبجانية التي ألهت في الصلاة بأعلامها في الصلاة إلى أبي جهم لأنه رضي الله عنه ربما كان من أهل الجمع في الصلاة فلا يرى غيره سبحانه فناء عن كل فان بخلاف النبي فإنه لكماله متمكن في كل من مقامي الجمع والفرق في كل حالة ولهذا يرى من خلفه في الصلاة ولا يخفى عليه خشوعهم.
ولما كان من المقاصد العظيمة تبكيت اليهود، لأنهم أهل الكتاب وعندهم من علوم الأنبياء ما ليس عند العرب وقد استرشدوهم واستنصحوهم، فقد كان أوجب الواجبات عليهم محض النصح لهم، فأبدى سبحانه من تبكيتهم ما تقدم إلى أن ختمه بأن جميع الأنبياء كانوا لله سجداً ولأمره خضعاً، عقب ذلك بتوبيخ هو أعظم داخل فيه وهو أشد مما تقدم لمن خاف الله ورسله فقال: { فخلف من بعدهم } أي في بعض الزمان الذي بعد هؤلاء الأصفياء سريعاً { خلف } هم في غاية الرداءة { أضاعوا الصلاة } الناهية عن الفحشاء والمنكر التي هي طهرة الأبدان، وعصمة الأديان، وأعظم الأعمال، بتركها أو تأخيرها عن وقتها والإخلال بحدودها، فكانوا لما سواها أضيع، فأظلمت قلوبهم فأعرضوا عن داعي العقل { واتبعوا } أي بغاية جهدهم { الشهوات } التي توجب العار في الدنيا والنار في الآخرة، فلا يقربها من يستحق أن يعد بين الرجال، من تغيير أحكام الكتاب وتبديل ما فيه مما تخالف الأهواء كالرجم في الزنا، وتحريم الرشى والربا، ونحو ذلك، وأعظمه كتم البشارة بالنبي العربي الذي هو من ولد إسماعيل { فسوف يلقون } أي يلابسون - وعدا لا خلف فيه بعد طول المهلة - جزاء فعلهم هذا { غيّاً * } أي شراً يتعقب ضلالاً عظيماً، فلا يزالون في عمى عن طريق الرشاد لا يستطيعون إليه سبيلاً، وهم على بصيرة من أنهم على خطأ وضلال، ولكنهم مقهورون على ذلك بما زين لهم منه حتى صارت لهم فيه أتم رغبة، وذلك أعظم الشر، ولم يزل سبحانه يستدرجهم بالنعم إلى أن قطعوا بالظفر والغلبة حتى أناخت بهم سطوات العزة، فأخذوا على غرة، ولا أنكأ من الأخذ على هذه الصفة بعد توطين النفس على الفوز، وهو من وادي قوله
{ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً } [الإسراء: 97] مع قوله { أسمع بهم وأبصر } وجزاء من كان هذا ديدنه في الدنيا والآخرة معروف لكل من له أدنى بصيرة أنه العار ثم النار، وأيضاً فإن من ضل أخطأ طريق الفلاح من الجنة وغيرها فخاب، ومن خاب فقد هلك؛ قال أبو علي الجبائي: والغي هو الخيبة في اللغة - انتهى. ويجوز أن يراد بالغي الهلاك، إما من قولهم - أغوية - وزن أثفية - أي مهلكة، وإما من تسمية الشيء باسم ما يلزمه.