خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً
٧٢
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَٰتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً
٧٣
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً
٧٤
قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً
٧٥
وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ هُدًى وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً
٧٦
-مريم

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان الخلاص منها بعد ذلك مستبعداً، قال مشيراً إليه بأداة البعد: { ثم ننجي } أي تنجية عظيمة على قراءة الجماعة، ومطلق إنجاء على قراءة الكسائي، وكأن ذلك باختلاف أحوال الناس مع أن المطلق لا ينافي المقيد { الذين اتقوا } أي كانوا متقين منها بأن تكون عليهم حال الورود برداً وسلاماً { ونذر الظالمين } أي نترك على أخبث الأحوال الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها واستمروا على ذلك فكانوا في أفعالهم خابطين كالأعمى { فيها جثياً * } كما كانوا حولها لا يهتدون إلى وجه يخلصون به منها.
ولما كان هذا جديراً بالقبول لقيام الأدلة على كمال قدرة قائله، وتنزهه عن إخلاف القول، لبراءته من صفات النقص، قال معجباً من منكره عاطفاً على قوله { ويقول الإنسان }: { وإذا تتلى عليهم } أي الناس، من أيّ تال كان { ءاياتنا } حال كونها { بينات } لا مرية فيها، بأن تكون محكمات، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو ببيان النبي صلى الله عليه وسلم فهي حال مؤكدة أو كاشفة { قال الذين كفروا } بآيات ربهم البينة، جهلاً منهم ونظراً إلى ظاهر الحياة الدنيا الذي هو مبلغهم من العلم { للذين ءامنوا } أي لأجلهم أو مواجهة لهم، إعراضاً عن الاستدلال بالآيات، ووجوه دلالتها البينات، بالإقبال على هذه الشبهة الواهية - وهي المفاخرة بالمكاثرة في الدنيا - من قولهم: { أي الفريقين } نحن - بما لنا من الاتساع، أم أنتم - بما لكم من خشونة العيش ورثاثة الحال { خير مقاماً } أي موضع قيام أو إقامة - على قراءة ابن كثير بضم الميم والجماعة بفتحها: { وأحسن ندياً * } مجمعاً ومتحدثاً باعتبار ما في كل من الرجال، وما لهم من الزي والأموال، ويجعلون ذلك الامتحان بالإنغام والإحسان دليلاً على رضى الرحمن، مع التكذيب والكفران، ويغفلون عن أن في ذلك - مع التكذيب بالبعث - تكذيباً مما يشاهدونه منا من القدرة على العذاب بإحلال النقم، وسلب النعم، ولو شئنا لأهلكناهم وسلبنا جميع ما يفتخرون به { وكم أهلكنا } بما لنا من العظمة.
ولما كان المراد استغراق الزمان، لم يأت بالجار إعلاماً بأن المتقدمين كلهم كانوا أرغد عيشاً وأمكن حالاً فقال: { قبلهم من قرن } أي شاهدوا ديارهم، ورأوا آثارهم؛ ثم وصف كم بقوله: { هم } أي أهل تلك القرون { أحسن } من هؤلاء { أثاثاً } أي أمتعة { ورئياً * } أي منظراً، فكأنه قيل: فما يقال لهم؟ فقال: { قل } أي لهم رداً عليهم وقطعاً لمعاذيرهم وهتكاً لشبههم: هذا الذي افتخرتم به لا يدل على حسن الحال في الآخرة، بل على عكس ذلك، فقد جرت عادته سبحانه أنه { من كان في الضلالة } مثلكم كوناً راسخاً بسط له في الدنيا وطيب عيشه في ظاهر الحال فيها، ونعم بأنواع الملاذ، وعبر عن أن ذلك لا يكاد يتخلف عن غير من حكم بإلزامه المسكنة من اليهود بلام الأمر، إيذاناً بوجوده وجود المأمور به الممتثل في قوله: { فليمدد } وأشار إلى التحلي لهم بصفة الإحسان بقوله: { له الرحمن } أي العام الامتنان { مداً * } في العاجلة بالبسط في الآثار، والسعة في الديار، والطول في الأعمار، وإنفاقها فيما يستلذ من الأوزار الكبار، فيزيده العزيز الجبار بذلك ضلالة، فيا له من خسار، وتباب وتبار، لمن له استبصار، ولا نزال نمد هل استدراجاً { حتى } وحقق أخذهم بأداة التحقيق فقال: { إذا رأوا } أي كل من كفر بالله بأعينهم وإن ادعوا أنهم يتعاضدون ويتناصرون، ولذلك جمع باعتبار المعنى { ما يوعدون } من قبل الله { إما العذاب } في الدنيا بأيدي المؤمنين أو غيرهم، أو في البرزخ { وإما الساعة } التي هم بها مكذبون، وعن الاستعداد لها معرضون، ولا شيء يشبه أهوالها، وخزيها ونكالها.
ولما كان الجواب: علموا أن مكانهم شر الأماكن، وأن جندهم أضعف الجنود، عبر عنه بقوله تهديداً: { فسيعلمون } إذا رأوا ذلك { من هو شر مكاناً } أي من جهة المكان الذي قوبل به المقام { وأضعف جنداً * } هم أو المؤمنون، أي أضعف من جهة الجند الذي أشير به إلى النديّ، لأن القصد من فيه، وكأنه عبر بالجند لأن قصدهم المغالبة وما كل من في النديّ يكون مقاتلاً.
ولما كان هذا لكونه استدراجاً زيادة في الضلال، قابله بقوله، عطفاً على ما تقدم تقديره تسبيباً عن قوله { فليمدد } وهو: فيزيده ضلالاً، أو على موضع { فليمدد }: { ويزيد الله } وعبر بالاسم العلم إشارة إلى التجلي لهم بجميع الصفات العلى ليعرفوه حق معرفته { الذين اهتدوا هدى } عوض ما زوى عنهم ومنعهم من الدنيا لكرامتهم عنده مما بسطه للضلال لهوانه عليه؛ فالآية من الاحتباك: ذكر السعة بالمد للضال أولاً دليلاً على حذف الضيق بالمنع للمهتدي ثانياً، وزيادة الهداية ثانياً دليلاً على حذف زيادة الضلال أولاً، وأشار إلى أنه مثل ما خذل أولئك بالنوال، وفق هؤلاء لمحاسن الأعمال، بإقلال الأموال فقال: { والباقيات } ثم وصفها احترازاً من أفعال أهل الضلال بقوله: { الصالحات } أي من الطاعات والمعارف التي شرحت لها الصدور، فأنارت بها القلوب، وسلمت من إحباط الذنوب، فأوصلت إلى علام الغيوب { خير عند ربك } مما متع به الكفرة ومدوا به - على تقدير التنزل إلى تسميته خيراً، وإضافة الرب إليه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه يربيها تربية تبلغ أقصى ما يرضيه في كل تابعيه؛ ثم بين جهة خيرية هذا بقوله: { ثواباً } أي من جهة الثواب { وخير مرداً * } أي من جهة العاقبة يوم الحسرة وهو كالذي قبله، أو على قولهم: الصيف أحر من الشتاء بمعنى أنه في حره أبلغ منه في برده. فالكفرة يردون إلى خسارة وفناء، والمؤمنون إلى ربح وبقاء.