خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً
٧٧
أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً
٧٨
كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً
٧٩
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً
٨٠
وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً
٨١
كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً
٨٢
أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً
٨٣
فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً
٨٤
-مريم

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما تضمن هذا من التهديد بذلك اليوم ما يقطع القلوب، فيوجب الإقبال على ما ينجي منه، عجب من حال من كفر به، موبخاً له، منكراً عليه، عاطفاً على ما أرشد إليه السياق فقال معبراً عن طلب الخير بالرؤية التي هي الطريق إلى الإحاطة بالأشياء علماً وخبرة، وإلى صحة الخبر عنها: { أفرءيت } أي أرأيت الذي يعرض عن هذا اليوم فرأيت { الذي } زاد على ذلك بأن { كفر بآياتنا } الدالات على عظمتنا بالدلالات البينات { وقال } جراءة منه وجهلاً؛ أو يقال: إنه لما هول أمر ذلك اليوم. وهتك أستار مقالاتهم، وبين وهيها، تسبب عن ذلك التعجيبُ ممن يقول: { لأوتين } أي والله في الساعة على تقدير قيامها ممن له الإيتاء هنالك { مالاً وولداً * } أي عظيمين، فلم يكفه في جهله تعجيز القادر حتى ضم إليه إقدار العاجز.
ولما كان ما ادعاه لا علم له به إلا بأحد أمرين لا علم له بواحد منهما، أنكر عليه قوله ذلك بقوله: { أطلع الغيب } الذي هو غائب عن كل مخلوق، فهو في بعده عن الخلق كالعالي الذي لا يمكن أحداً منهم الاطلاع عليه، وتفرد به الواحد القهار { أم اتخذ } أي بغاية جهده { عند الرحمن } العام الرحمة بالإنعام على الطائع والانتقام من العاصي ثواباً للطائع { عهداً * } عاهده عليه بأنه يؤتيه ما ذكر بطاعة فعلها له على وجهها ليقف سبحانه فيه عند قوله.
ولما كان كل من الأمرين: إطلاع الغيب واتخاذ العهد، وكذا ما ادعاه لنفسه، وما يلزم عن اتخاذ العهد من القرب، منتفياً قال: { كلاًّ } أي لم يقع شيء من هذين الأمرين، ولا يكون ما ادعاه فليرتفع عنه صاغراً.
ولما كان النفي هنا عن الواحد مفهماً للنفي عما فوقه اكتفى به، ولما رد ذلك استأنف الجواب لسؤال من كأنه قال: فماذا يكون له؟ بقوله مثبتاً السين للتوكيد في هذا التهديد: { سنكتب ما يقول } أي نحفظه عليه حفظ من يكتبه لنوبخه به ونعذبه عليه بعد الموت فيظهر له بعد طول الزمان أن ما كان فيه ضلال يؤدي إلى الهلاك لا محالة، ويجوز أن تكون السين على بابها من المهلة، وكذا الكتابة، والإعلام بذلك للحث على التوبة قبل الكتابة، وذلك من عموم الرحمة { ونمد له من العذاب مداً * } باستدراجه بأسبابه من كثرة النعم من الأموال والأولاد المحببة له في الدنيا، المعذبة له فيها، بالكدح في جمعها والمخاصمة عليها الموجبة له التمادي في الكفر الموجب لعذاب الآخرة، وإتيان بعضه في إثر بعض
{ إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } [التوبة: 85] { ونرثه } بموته عن جميع ذلك؛ ثم أبدل من ضميره قوله: { ما يقول } أي من المال والولد فنحول بينه وبينهم بعد البعث كما فعلنا بالموت كحيلولة الوارث بين الموروث وبين الموروث عنه { ويأتينا } في القيامة { فرداً * } مسكيناً منعزلاً عن كل شيء لا قدرة له على مال ولا ولد، قلا عز له، ولا قوة بشيء منهما؛ روى البخاري في التفسير عن خباب رضي الله عنه قال: كنت قيناً بمكة فعملت للعاص بن وائل السهمي سيفاً، فجئت أتقاضاه فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، قلت: لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يحييك، وفي رواية: حتى تموت ثم تبعث، قال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟ قلت: نعم! قال: فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتى مالاً وولداً فأقضيك، فنزلت هذه الآية { أفرأيت الذي } - إلى قوله: { فرداً }.
ولما أخبر تعالى بالبعث، وذكر أن هذا الكافر يأتيه على صفة الذل، أتبعه حال المشركين مع معبوداتهم، فقال معجباً منهم عاطفاً على قوله ويقول الإنسان: { واتخذوا } أي الكفار، وجمع لأن نفي العز عن الواحد قد لا يقتضي نفيه عما زاد { من دون الله } وقد تبين لهم أنه الملك الأعلى الذي لا كفوء له { ءالهة ليكونوا لهم } أي الكافرين { عزاً * } لينقذوهم من العذاب.
ولما بين أنه لا يعزه مال ولا ولد، وكان نفع الأوثان دون ذلك بلا شك، نفاه بقوله: { كلاًّ } بأداة الردع، لأن ذلك طلب للعز من معدن الذل من العبيد الذين من اعتز لهم ذل، فإنهم مجبولون على الحاجة، ومن طلب العز للدنيا طلبه من العبيد لا محالة، فاضطر قطعاً - لبنائهم على النقص - إلى ترك الحق واتباع الباطل، فكانت عاقبة أمره الذل وإن طال المدى، فإن الله تعالى ربما أمهل المخذول إلى أن ينتهي في خذلانه إلى أن يستحق لباس الذل؛ ثم بين سبحانه ذلك بما يكون منهم يوم البعث فقال: { سيكفرون } أي الآلهة بوعد لا خلف فيه وإن طال الزمان { بعبادتهم } أي المشركين، فيقولون لهم
{ ما كنتم إيَّانا تعبدون } [يونس: 28] { { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } [البقرة: 166] { ويكونون عليهم } أي الكفار؛ ووحد إشارة إلى اتفاق الكلمة بحيث إنهم لفرط تضامنهم كشيء واحد فقال: { ضداً * } أي أعداء فيكسبونهم الذل، وكذا يفعل الكفار مع شركائهم ويقولون { والله ربنا ما كنا مشركين } فيقع بينهم العداوة كما قال تعالى { ثم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً } [العنكبوت: 25].
ولما كان من المستبعد عندهم جواز رجوعهم عنهم فضلاً عن كفرهم بهم، دل على وقوعه بما يشاهد منهم من الأفعال المنافية لرزانة الحلم الناشئة عن وقار العلم، فقال: { ألم تر أنا } بما لنا من العظمة { أرسلنا الشياطين } الذين خلقناهم من النار، إرسالاً مستعلياً بالإبعاد والإحراق { على الكافرين } أي العريقين في الكفر { تؤزهم أزاً * } أي تحركهم تحريكاً شديداً، وتزعجهم في المعاصي والدنايا التي لا يشكون في قباحتها وعظيم شناعتها وهم أشد الناس عيباً لفاعليها وذماً لمرتكبيها إرعاجاً عظيماً بحيث يكونون في تقلبهم ذلك مثل الماء الذي يغلي في القدر، ومثل الشرر المتطاير الذي هو أشد شيء منافاة لطبع الطين وملاءمة لطبع النار، فلما ثبت بذلك المدعى، تسبب عنه النهي عما اتصفوا به من خفة السفه وطيش الجهل فقال: { فلا تعجل عليهم } بشيء مما تريد به الراحة منهم.
ولما كانت مراقبة ناصر الإنسان لعدوه في الحركات والسكنات أكبر شاف للولي ومفرح، وأعظم غائط للعدو ومزعج ومخيف ومقلق، علل ذلك بقوله دالاًّ على أن زمنهم قصير جداً بذكر العد: { إنما نعد لهم } بإمهالنا لهم وإدرارنا النعم عليهم { عداً * } لأنفاسهم فما فوقها لا نغفل عنهم بوجه، فإذا جاء أجلهم الذي ضربناه لهم، محونا آثارهم، وأخلينا منهم ديارهم، لا يمكنهم أن يفوتونا، فاصبر فما أردنا بإملائنا لهم إلا إشقاءهم وإرداءهم لا تنعيمهم وإعلاءهم، فهو من قصر الموصوف على صفته إفراداً.