خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىٰ
٤٥
قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ
٤٦
فَأْتِيَاهُ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَٱلسَّلاَمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ
٤٧
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
٤٨
قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ
٤٩
قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ
٥٠
قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ
٥١
قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى
٥٢
ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ
٥٣
كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ
٥٤
-طه

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان فرعون في غاية الجبروت، وكان حاله حال من يهلكهما إلا أن يمنعهما الله، وأراد علم ما يكون من ذلك { قالا ربنا } أي أيها المحسن إلينا. ولما كان مضمون إخبارهما بالخوف مع كونهما من جهة الله - من شأنه أن لا يكون وأن ينكر، أكد فقالا مبالغين فيه بإظهار النون الثالثة إبلاغاً في إظهار الشكوى ليأتي الجبر على قدر ما يظهر من الكسر: { إننا نخاف } لما هو فيه من المكنة { أن يفرط } أي يجعل { علينا } بالعقوبة قبل إتمام البلاغ عجلة من يطفر ويثب إلى الشيء { أو أن يطغى* } فيتجاوز إلى أعظم مما هو فيه من الاستكبار { قال لا تخافا } ثم علل ذلك بما هو مناط النصرة والحيطة للولي والإهلاك للعدو، فقال مؤكداً إشارة إلى عظم الخبر، وتنبيهاً لمضمونه لأنه خارج عن العوائد، وأثبت النون الثالثة على وزان تأكيدهما: { إنني معكما } لا أغيب كما تغيب الملوك إذا أرسلوا رسلهم { أسمع وأرى* } أي لي هاتان الصفتان، لا يخفى عليَّ شيء من حال رسولي ولا حال عدوه، وأنتما تعلمان من قدرتي ما لا يعلمه غيركما.
ولما تمهد ذلك، تسبب عنه تعليمهما ما يقولان، فقال مؤكداً للذهاب أيضاً لما مضى: { فأتياه فقولا } أي له؛ ولما كان فرعون ينكر ما تضمنه قولهما، أكد سبحانه فقال: { إنا } ولما كان التنبيه على معنى المؤازرة هنا - كما تقدم مطلوباً، ثنى فقال: { رسولا ربك } الذي رباك فأحسن تربيتك بعد أن أوجدك من العدم، إشارة إلى تحقيره بأنه من جملة عبيد مرسلهما تكذيباً له في ادعائه الربوبية، ثم سبب عن إرسالكما إليه قولكما: { فأرسل معنا } عبيده { بني إسرائيل } ليعبدوه، فإنه لا يستحق العبادة غيره { ولا تعذبهم } بما تعذبهم به من الاستخدام والتذبيح؛ ثم علل دعوى الرسالة بما يثبتها، فقال مفتتحاً بالحرف التوقع لأن حال السامع لادعاء الرسالة أن يتوقع دلالة على الإرسال: { قد جئناك بآية } أي علامة عظيمة وحجة وبرهان { من ربك } الذي لا إحسان عليك إلا منه، موجبة لقبول ما ادعيناه من العصا واليد وغيرهما، فأسلم تسلم، وفي تكرير مخاطبته بذلك تأكيد لتبكيته في ادعاء الربوبية، ونسبته إلى كفران الإحسان، فسلام عليك خاصة إن قبلت هدى الله { والسلام } أي جنسه { على } جميع { من اتبع } بغاية جهده { الهدى* } عامة، وإذا كان هذا الجنس عليهم كان من المعلوم أن العطب على غيرهم، فالمعنى: وإن أبيت عذبت { إنا } أي لأنا { قد أوحي إلينا } من ربنا { أن العذاب } أي كله، لأن اللام للاستغراق أو الماهية، وعلى التقديرين يقتضي قدر ثبوت هذا الجنس ودوامه لما تفهمه الاسمية { على } كل { من كذب وتولى* } أي أوقع التكذيب والإعراض، وذلك يقتضي أنه إن كان منه شيء على مصدق منقضياً، وإذا انقضى كان كأن لم يوجد، وفي صرف الكلام عنه تنبيه على أنه ضال مكذب وتعليم للأدب.
ولما كان التقدير: فأتياه فقولا: إنا رسولا ربك - إلى آخر ما أمر به، وتضمن قولهما أن لمرسلهما القدرة التامة والعلم الشامل، فتسبب عنه سؤاله عن تعيينه، أستأنف الإخبار عن جوابه بقوله: { قال } أي فرعون مدافعاً لهما بالمناظرة لا بالبطش، لئلا ينسب إلى السفه والجهل: { فمن } أي تسبب عن كلامكما هذا الذي لا يجترىء على مواجهتي به أحد من أهل الأرض أن أسألكما: من { ربكما } الذي أرسلكما، ولم يقل: ربي، حيدة عن سواء النظر وصرفاً للكلام على الوجه الموضح لخزيه.
ولما كان موسى عليه السلام هو الأصل في ذلك، وكان ربما طمع فرعون بمكره وسوء طريقه في حبسه تحصل في لسانه، أفرده بقوله: { يا موسى * قال } له موسى على الفور: { ربنا } أي موجدنا ومربينا ومولانا { الذي أعطى كل شيء } مما تراه في الوجود { خلقه } أي ما هو عليه مما هو به أليق في المنافع المنوطة به، والآثار التي تتأثر عنه من الصورة و الشكل والمقدار واللون والطبع وغير ذلك مما يفوت الحصر، ويجل عن الوصف.
ولما كان في إفاضة الروح من الجلالة والعظم ما يضمحل عنده غيره من المفاوتة، أشار إلى ذلك بحرف التراخي فقال: { ثم هدى * } أي كل حيوان منه مع أن فيها العاقل وغيره إلى جميع منافعه فيسعى لها، ومضاره فيحذرها، فثبت بهذه المفاوتة والمفاصلة مع اتحاد نسبة الكل إلى الفاعل أنه واحد مختار، وأن ذلك لو كان بالطبيعة المستندة إلى النجوم أو غيرها كما كان يعتقده فرعون وغيره لم يكن هذا التفاوت.
ولما لم يكن لأحد بالطعن في هذا الجواب قبل لأنه لا زلل فيه ولا خلل مع رشاقته واختصاره وسبقه بالجمع إلى غاية مضماره - صرف الكلام بسرعة خوف من الاتضاح، بزيادة موسى عليه السلام في الإيضاح، فيظهر الفساد من الصلاح، إلى شيء يتسع فيه المجال، ولا يقوم عليه دليل، فيمكن فيه الرد، فأخبر عنه سبحانه على طريق الاستئناف بقوله: { قال فما } أي تسبب عما تضمن هذا من نسبة ربك إلى العلم بكل موجود أني أقول لك: فما { بال } أي خبر { القرون الأولى* } الذي هو في العظمة بحيث إنه ما خالط أحداً إلى أحاله وأماله، وهو وأن كان حيدة، هو من أمارات الانقطاع، غير أنه فعل راسخ القدم في المكر والخداع.
ولما فهم عنه موسى عليه السلام ما أراد أن ترتب على الخوض في ذلك مما لا طائل تحته من الرد والمطاولة، ولم تكن التوراة نزلت عليه إذ ذاك، وإنما نزلت بعد هلاك فرعون لم يمش معه في ذلك { قال } قاطعاً له عنه: { علمها عند ربي } أي المحسن إليّ بإرسالي وتلقيني الحجاج.
ولما كانت عادة المخلوقين إثبات الأخبار في الكتب، وكان تعالى قد وكل بعباده من ملائكته من يضبط ذلك، قال مخاطباً له بما يعرفون من أحوالهم: { في كتاب } أي اللوح المحفوظ. ولما كان ربما وقع في وهم واهم أن الكتاب لا يكون إلاخوفاً من نسيان الشيء أو الجهل بالتوصل إليه مع ذكر عينه، نفى ذلك بقوله: { لا يضل ربي } أي الذي رباني كما علمت ونجاتي من جميع ما قصدتموه لي من الهلاك ولم يضل عن وجه من وجوهه، ولا نسي وجهاً يدخل منه شيء من خلل { ولا ينسى* } أي لا يقع منه نسيان لشيء أصلاً من أخباره ولا لغيرهم، وفي ذلك إشارة إلى تبكيت اليهود بأن ثبوت النبوة إن كان يتوقف على أن يخبر النبي عن كل ما يسأل عنه لزم أن يتوقفوا في نبوة نبيهم عليه السلام لأنه لم يخبر فرعون عما سأله عنه من أمر القرون؛ ثم وصل بذلك ما كان فيه قبل من الدليل العقلي على وحدة الصانع واختياره فقال: { الذي جعل لكم } أيها الخلائق { الأرض } أي أكثرها { مهداً } تفترشونها، وجعل بعضها جبالاً لا يمكن القرار عليها، وبعضها رخواً تسرح فيه الأقدام وبعضها جلداً - إلى غير ذلك مما تشاهدون فيها من الاختلاف { وسلك لكم فيها سبلاً } أي سهّل طرقاً تسلكونها في أراضي سهلة وحزنة وسطها بين الجبال والأودية والرمال، وهيأ لكم فيها من المنافع من المياه والمراعي ما يسهل ذلك، وجعل فيها ما لا يمكن استطراقه أصلاً، من أن نسبة الكل إلى الطبيعة واحدة، فلولا أن الفاعل واحد مختار لم يكن هذا التفاوت وعلى هذا النظام البديع { وأنزل من السماء ماء } تشاهدونه واحداً في اللون والطعم.
ولما كان ما ينشأ عنه أدل على العظمة وأجلى للناظر وأظهر للعقول. استغرق صلى الله عليه وسلم في بحار الجلال، فاستحضر أن الآمر له بهذا الكلام هو المتكلم به في الحقيقة فانياً عن نفسه وعن جميع الأكوان، فعبر عن ذلك، عادلاً عن الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع بما له من العظمة بقوله: { فأخرجنا } أي بما لنا من العظمة التي تنقاد لها الأشياء المختلفة { به أزواجاً } أي أصنافاً متشاكلة ليس فيها شيء يكون واحداً لا شبيه له { من نبات شتى* } أي مختلفة جداً في الألوان والمقادير والمنافع والطبائع والطعوم؛ ثم أشار إلى تفصيل ما فيها من الحكمة بقوله حالاً من فاعل { أخرجنا } : { كلوا } أي ما دبره لكم بحكمته منها { وارعوا } أي سرحوا في المراعي { أنعامكم } ما أحكمه لها ولا يصلح لكم، فكان من متقن تدبيره أن جعل أرزاق العباد بعملها تنعيماً لهم، وجعل علفها مما يفضل عن حاجتهم، ولا يقدرون على أكله، وقد دلت هذه الأوصاف على تحققه سبحانه قطعاً بأنه لا يضل ولا ينسى من حيث إنه تعالى أبدع هذا العالم شاملاً لكل ما يحتاجه من فيه لما خلقهم له من السفر إليه والعرض عليه في جميع تقلباتهم على اختلافها، وتباين أصنافها، وتباعد أوصافها، وعلى كثرتهم، وتنائي أمزجتهم، ولم يدعه ناقصاً من شيء من ذلك بخلاف غيره، فإنه لو عمل شيئاً واجتهد كل الاجتهاد في تكميله فلا بد أن يظهر له فيه نقص ويصير يسعى في إزالته وقتاً بعد وقت.
ولما كمل هذا البرهان القويم، دالاً على العليم الحكيم، قال منبهاً على انتشار أنواره، وجلالة مقداره، مؤكداً لأجل إنكار المنكرين: { إن في ذلك } أي الإنشاء هذه الوجوه المختلفة { لآيات } على منشئه { لأولي النهى * } العقول التي من شأنها أن تنهى صاحبها عن الغيّ، ومن عمي عن ذلك فلا عقل له أصلاً لأن عقله لم ينفعه، وما لا ينفع في حكم العدم، وذكر ابن كثير هنا ما عزاه ابن إسحاق في السيرة لزيد بن عمرو بن نفيل، وابن هشام لأمية بن أبي الصلت:

وأنت الذي من فضل منّ ورحمة بعثت إلى موسى رسولاً منادياً
فقلت ألا يا اذهب وهارون فادعوا إلى الله فرعون الذي كان باغيا
فقولا له آأنت سويت هذه بلا وتد حتى استقلت كما هيا
وقولا له آأنت رفعت هذه بلا عمد أرفق إذن بك بانيا
وقولا له آأنت سويت وسطها منيراً إذا ما جنه الليل هاديا
وقولا له من يخرج الشمس بكرة فيصبح ما مست من الزرع ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب في الثرى فيخرج منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤوسه وفي ذاك آيات لمن كان واعيا