خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

بَلْ قَالُوۤاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ ٱلأَوَّلُونَ
٥
مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ
٦
وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوۤاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٧
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ
٨
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ ٱلْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرفِينَ
٩
-الأنبياء

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كانت أقوالهم في أمر القرآن قد اضطربت، والإضطراب من أمارات الباطل، وكان وصفهم له بأنه سحر مما يهول السامع ويعلم منه أنه معجز، فربما أدى إلى الاستبصار في أمره، أخبر أنهم نزلوا به عن رتبة السحر على سبيل الاضطراب فقال: { بل قالوا } أي عن هذا الذكر الحكيم أنه { أضغاث أحلام } أي تخاليط نائم مبناه الباطل وإن كان ربما صدق بالأخبار ببعض المغيبات التي كشف الزمان عن أنها كما أخبر القرآن، ثم أنزلوا عن ذلك إلى الوصف موجب لأعظم النفرة عنه وعمن ظهر عنه فقالوا: { بل افتراه } أي تعمد وصفه من عند نفسه ونسبه إلى الله.
ولما كان ذلك لا ينافي كون مضمونه صادقاً في نفسه، قالوا { بل هو شاعر } أي يخيل ما لا حقيقة له كغيره من الشعراء، تتربص به ريب المنون لأنه بشر كما تقدم، فلا بد أن يموت ونستريح بعد موته، وإليه أشار في آخر التي قبلها
{ قل كل متربص } } [طه: 135] إلى أخره، فاضطربت أقوالهم وعوّلوا أخيراً على قريب من السحر في نفي الحقيقة.
ولما كانوا يصفون القرآن بجميع هذه الأوصاف جملة، يقولون لكل شخص ما رأوه أنسب له منها، نبه الله سبحانه كل من له لب على بطلانها كلها بتناقضها بحرف الإضراب إشارة إلى أنه كان يجب على من قالها على قلة عقله وعدم حيائه أن لا ينتقل إلى قول منها إلا بعد الإعراض عن الذي قبله، وأنه مما يضرب عنه لكونه غلطاً، ما قيل إلا عن سبق لسان وعدم تأمل، ستراً لعناده وتدليساً لفجوره، ولو فعل ذلك لكانت جديرة بانكشاف بطلانها بمجرد الانتقال فكيف عند اجتماعها. ولما كانت نسبته إلى الشعر أضعفها شأناً، وأوضحها بطلاناً، لم يحتج إلى إضراب عنه، وعبروا في الأضغاث بوصف القرآن تأكيداً لعيبه، وفي الافتراء والشعر بوصفه صلى الله عليه وسلم لذلك.
ولما أنتج لهم ذلك على زعمهم القدح في أعظم المعجزات، سببوا عن هذا القدح طلب آية فقالوا: { فليأتنا } أي دليلاً على رسالته { بآية } أي لأنا قد بينا بطعننا أن القرآن ليس بآية؛ ثم خيلوا النصفة بقولهم: { كما } أي مثل ما، وبنوا الفعل للمفعول إشارة إلى أنه متى صحت الرسالة كان ذلك بزعمهم من غير تخلف لشيء أصلاً فقالوا: { أرسل الأولون* } أي بالآيات مثل تسبيح الجبال، وتسخير الريح، وتفجير الماء، وإحياء الموتى، وهذا تناقض آخر في اعترافهم برسالة الأولين مع معرفتهم أنهم بشر، وإنكارهم رسالته صلى الله عليه وسلم لكونه بشراً، ولم يستحيوا بعد التناقض من المكابرة فيما أتاهم به من انشقاق القمر، وتسبيح الحصى، ونبع الماء، والقرآن المعجز، مع كونه أمياً - إلى غير ذلك.
ولما أشار سبحانه إلى فساد طعنهم بما جعله هباء منثوراً، وتضمن قولهم الذي سببوه عنه القرار بالرسل البشريين وأياتهم، أتبعه بيان ما عليهم فيه، فبين أولاً أن الآيات تكون سبباً للهلاك، فقال جواباً لمن كأنه قال: رب أجبهم إلى ما اقترحوه ليؤمنوا: { ما ءامنت } أي بالإجابة إلى الآيات المقترحات.
ولما كان المراد استغراق الزمان، جرد الظرف عن الخافض فقال: { قبلهم } أي قبل كفار مكة المقترحين عليك، وأعرق في النفي فقال: { من قرية } ولما كان المقصود التهويل في الإهلاك، وكان إهلاك القرية دالاً على إهلاك أهلها من غير عكس، دل على إهلاك جميع المقترحين تحذيراً من مثل حالهم بوصفها بقوله في مظهر العظمة المقتضي لإهلاك المعاندين: { أهلكناها } أي على كثرتهم
{ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح } [الإسراء: 17]، { { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون } [الشعراء: 208]، { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [الإسراء: 15] "وما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر" وأشار بذلك إلى أنه لم يسلم عند البأس إلا قرية واحدة وهم قوم يونس لأنهم آمنوا عند رؤية المخايل وقيل الشروع في الإهلاك، وهو إشارة إلى أن سبب الإيمان مشيئته سبحانه لا الآيات.
ولما كانوا كمن قبلهم إن لم يكونوا دونهم، حسن الإنكار في قوله: { أفهم يؤمنون* } أي كلا! بل لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم حين لا ينفع الإيمان، وقد قضينا في الإزل أن لا نستأصل هذه الأمة إكراماً لنبيها، فنحن لا نجيبهم إلى المقترحات لذلك.
ولما بين أولاً أن الآيات تكون سبباً للهلاك، فلا فائدة في الإجابة إلى ما اقترحوه منها بعد بطلان ما قدحوا به في القرآن، بيّن ثانياً بطلان ما قدحوا به في الرسول بكونه بشراً، بأن الرسل الذين كانوا من قبله كانوا بإقرارهم من جنسه، فما لهم أن ينكروا رسالته هو مثلهم، بل عليهم أن يعترفوا له عندما أظهر من المعجز كما اعترفوا لأولئك، كل ذلك فطماً عن أن يتمنى أحد إجابتهم إلى التأييد بملك ظاهر، فقال عاطفاً على ما "آمنت": { وما أرسلنا }.
ولما كان السياق لإنكار أن يكون النبي بشراً، وكان الدهر كله ما خلا قط جزء منه من رسالة، إما برسول قائم، وإما بتناقل أخباره، كان تعميم الزمان أنسب فقال من غير حرف جر: { قبلك } أي في جميع الزمان الذي تقدم زمانك في جميع طوائف البشر { إلا رجالاً نوحي إليهم } بالملائكة سراً من غير أن يطلع على ذلك الملك غيرهم كما اقتضته العظمة من التخصيص والاختيار والإسرار عن الأغيار، وذلك من نعم الله على خلقه، لأن جعل الرسل من البشر أمكن للتلقي منهم والأخذ عنهم.
ولما لم يكن لهم طريق في علم هذا إن يقبلوا خبره عن القرآن إلا سؤال من كانوا يفزعون إليهم من أهل الكتاب ليشايعوهم على ما هم عليه من الشك والارتياب، قال: { فسألوا أهل الذكر } ثم نبه على أنهم غير محتاجين فيه إلى السؤال بما كان قد بلغهم على الآجال من أحوال موسى وعيسى وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم عليهم الصلاة والسلام بقوله، معبراً بأداة الشكك محركاً لهم إلى المعالي: { إن كنتم } أي بجبلاتكم { لا تعلمون* } أي لا أهلية لك في اقتناص علم، بل كنتم أهل تقليد محض وتبع صرف.
ولما بين أنه على سنة من مضى من الرسل في كونه رجلاً، بين أنه على سنتهم في جميع الأوصاف التي حكم بها على البشر من العيش والموت فقال: { وما جعلناهم } أي الرسل الذين اخترنا بعثهم إلى الناس ليأمروهم بأوامرنا. ولما كان السبب في الأكل ترتيب هذا الهيكل الحيواني على ما هو عليه لا كونه متكثراً، وحد فقال { جسداً } أي ذوي جسد لحم ودم متصفين بأنهم { لا يأكلون الطعام } بل جعلناهم أجساداً يأكلون ويشربون، وليس ذلك بمانع من إرسالهم؛ قال ابن فارس في المجمل: وفي كتاب الخليل: إن الجسد لا يقال لغير الإنسان من خلق الأرض. ثم عطف على الأول قوله: { وما كانوا خالدين* } أي بأجسادهم، بل ماتوا كما مات الناس قبلهم وبعدهم، أي لم يكن ذلك في جبلتهم وإنما تميزوا عن الناس بما يأتيهم عن الله سبحانه، ورسولكم صلى الله عليه وسلم ليس بخالد، فتربصوا كما أشار إليه ختم طه فإنه متربص بكم وأنتم عاصون للملك الذي اقترب حسابه لخلقه وهو مطيع له، فأيكم أحق بالأمن؟ ولما بين أن الرسل كالمرسل إليهم بشر غير خالدين، بين سنته فيهم وفي أممهم ترغيباً لمن اتبع، وترهيباً لمن امتنع، فقال عاطفاً بأداة التراخي في مظهر العظمة على ما أرشد إليه التقدير من مثل: بل جعلناهم جسداً يأكلون ويشربون، ويعيشون إلى انقضاء آجالهم ويموتون، وأرسلناهم إلى أممهم فحذروهم وأنذروهم وكلموهم كما أمرناهم، ووعدناهم أن من آمن بهم أسعدناه، ومن كفر واستمر أشقيناه، وأنا نهلك من أردنا من المكذبين، فآمن بهم بعض وكفر آخرون؛ فلم نعاجلهم بالأخذ بل صبرنا عليهم، وطال بلاء رسلنا بهم { ثم صدقناهم } بما اقتضت عظمتنا، وأكد الأمر بتعدية الفعل من غير حرف الجر فقال: { الوعد } أي بإنجائهم؛ وأشار بأداة التراخي إلى أنهم طال بلاؤهم بهم وصبرهم عليهم، ثم أحل بهم سطوته، وأراهم عظمته، ولذا قال مسبباً عن ذلك: { فأنجيناهم } أي الرسل بعظمتنا، ولكون السياق لأنهم في غاية الغفلة التي نشأ عنها التكذيب البليغ الذي اقتضى تنويع القول به إلى سحر وأضغاث وافتراء وشعر، فاقتضى مقابلته بصدق الوعد منه سبحانه، عبر بالإنجاء الذي هو إقلاع من وجدة العذاب في غاية السرعة { ومن نشآء } أي من تابعيهم. إشارة إلى أن سبب الإنجاء المشيئة لا أن التصديق موجب له، لأنه لا يجب عليه سبحانه وتعالى شيء { وأهلكنا } أي بما يقتضيه الحكمة { المسرفين* } كلهم الذين علمنا أن الإسراف لهم وصف لازم لا ينفكون عنه.