خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١١
يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ
١٢
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ
١٣
إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
١٤
-الحج

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما بين قسمي المصارحين بالكفر الكثيف والأكثف صريحاً. وأفهم المؤمن المخلص، عطف على ذلك المذبذب فقال: { ومن الناس } ولذلك عبر بالناس الذي مدلولة الاضطراب والتردد دون أن يضمر { من يعبد الله } أي يعمل على سبيل الاستمرار والتجدد بما أمر به الإله الأعظم من طاعته { على حرف } فهو مزلزل كزلزلة من يكون على حرف شفير أو جبل أو غيره، لا استقرار له، وكالذي على طرف من العسكر، فإن رأى غنيمة قر، وإن توهم خوفاً طار وفر، وذلك معنى قوله: { فإن أصابه خير } أي من الدنيا { اطمأن به } أي بسببه، وثبت على ما هو عليه { وإن أصابته فتنة } أي مصبية ولو قلت - بما يشير إليه التأنيث - في جسده أو معيشته يختبر بها ويظهر خبأة للناس { انقلب على وجهه } لتهيئه للانقلاب بكونه على شفا جرف فسقط عن ذلك الطرف من الدين سقوطاً لا رجوع له بعد إليه ولا حركة له معه، فإن الإنسان مطبوع على المدافعة بكل عضو من أعضائه عن وجهه فلا يمكن منه إلا بعد نهاية العجز، والمعنى أنه رجع إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر أو الشك رجوعاً متمكناً، وهذا بخلاف الراسخ في إيمانه، فإنه إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء حمد وصبر، فكل قضاء الله له خير.
ولما كان انقلاب هذا مفسداً لآخرته بما ناله من الوزر، وغير نافع له في استدراك ما فاته من الدنيا، كانت فذلكة ذلك قوله: { خسر الدنيا } أي بسبب أن ذلك لا يرد ما فاته منها ويكون سبب التقتير عليه وذهاب بركته
{ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } [المائدة: 66] "إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" { والآخرة } بفوات أجر الصبر وحصول إثم الجزع: ثم عظم مصيبته بقوله: { ذلك } أي الأمر العظيم { هو } أي لا غير { الخسران المبين* } ورى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء ثم بين هذا الخسران الذي رده إلى ما كان فيه قبل الإيمان الحرفي بقوله: { يدعوا } أي يعبد حقيقة أومجازاً مع التجدد والاستمرار بالاعتماد على غير الله ومنابذة { وإياك نستعين } [الفاتحة: 5]. ولما كان كل ما سوى الله دونه، نبه على ذلك بقوله: { من دون الله } أي عن أدنى رتبة من رتب المستجمع لصفات الكمال.
ولما كان المتضي للعبادة إنما هو الفعل بالاختيار، وأما الفعل الذي يقتضيه الطبع والقسر عليه فلا عبرة به في ذلك، فإنه لا قدرة على الانفكاك عنه فلا حمد لفاعله، نبه على ذلك بقوله: { ما لا يضره } أي بوجه من الوجوه حتى ولا بقطع النفع إن كان يتصور منه.
ولما قدم الضر لأنه من الأعذار المقبوله في ارتكاب الخطأ، أتبعه النفع قطعاً لكل مقال فقال: { وما لا ينفعه } بوجه من الوجوه ولا بترك الضر إن وجد منه، ولو أسقطت "ما" من الثاني لظن أن الذم يشترط فيه انتفاء الضر والنفع معاً حتى أن من ادعى ما انتفى عنه أحدهما لم يذم { ذلك } أي الفعل الدال على أعظم السفه وهو دعاء شيء انتفى عنه القدرة على النفع، أو شيء انتفى عنه القدرة على الضر { هو } أي وحده { الضلال البعيد* } عن الحق والرشاد الذي أوصل إلى فياف مجاهل لا يتأتى الرجوع منها، وذلك لأن الأول لو ترك عبادته ما قدر على منع إحسانه، والثاني لو تقاداه ما وصل إلى نفعه ولا يترك ضره، فعبادتهما عبث، لأنه استوى فعلها وتركها.
ولما كان الإحسان جالباً للانسان، من غير نظر إلى مورده، لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، بين أن ما قيل في جانب النفع إنما هو على سبيل الفرض فقال: { يدعوا } ولما كان ما فرض أولاً فيما عبر عنه بـ "ما" قد يكون غير عاقل، فيكون ما صدر منه لعدمه العقل، أزال هذا الإبهام بقوله: { لمن } أي زاعماً أن من { ضره } ولو بعبادته الموجبة لأعظم الشقاء { أقرب من نفعه } الذي يتوقع منه - إله.
ولما كانت الولاية الكاملة لا تنبغي إلا لمن يكون توقع النفع منه والضر على حد سواء، لقدرته على كل منهما باختياره، وكان العشير لا يصلح إلا إن كان مأمون العاقبة، وكان هذا المدعو إن نظر إليه في جانب الضر وجد غير قادر عليه، أو في جانب النفع فكذلك، وإن فرض توقع نفعه أو ضره كان خوف ضره أقرب من رجاء نفعه، استحق غاية الذم فلذلك استأنف تعالى وصفه بقوله معبراً في ذمه بالأداة الموضوعة لمجامع الذم: { لبئس المولى } لكونه ليس مرجو النفع كما هو مخشي الضر { ولبئس العشير* } لكونه ليس مأمون الضر فهو غير صالح لولاية ولا لعشرة بوجه.
ولما أفهم ما تقدم أن هذا الإله المدعو إليه قادر على كل من النفع والضر بالاختبار، وأن تجويز الوقوع لكل منهما منه على حد سواء، نبه على ذلك بقوله مستأنفاً: { إن الله } أي الحائز لجميع صفات الكمال المنزه عن جميع شوائب النقص { يدخل الذين آمنوا } برسله وما دعت إليه من شأنه { وعملوا } تصديقاً لإيمانهم { الصالحات } الخالصة الشاهدة بثباتهم في الإيمان بعد ما ضرهم في الدنيا بأنواع المعايب، تطهيراً لهم مما اقترفوه من الزلات، وأهوتهم إليه الهفوات { جنات تجري من تحتها } أي من أيّ مكان أردت من أرضها { الأنهار } ولما كان هذا أمراً باهراً دل على سهولته بقوله: تصريحاً بما أفهمه السياق من وصف الاختيار: { إن الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { يفعل ما يريد* } من كل نفع وضر.