خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
١٨
هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ
١٩
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ
٢٠
وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ
٢١
كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
٢٢
-الحج

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان جميع ما تقدم في هذه السورة دالاً على أنه على كل شيء قدير، وأنه يفعل ما يريد، وختم ذلك بأنه بكل شيء عليم لم يغب ولا يغيب شيء عنه، فاقتضى ذلك قيوميته، وكان بحيث يستعظم لكثرة الخلائق فكيف بأحوالهم، قرر ذلك في جواب من كأنه سأل فهي في معنى العلة، فقال: { ألم تر أن الله } أي الحائز لجميع الكمال المبرأ عن كل نقص { يسجد له } أي يخضع منقاداً لأمره مسخراً لما يريد منه تسخير من هو في غاية الاجتهاد في العبادة والإخلاص فيها { من في السماوات }.
ولما كان في السياق مقتضياً للإبلاغ في صفة القيومية بشهادة ذكر الفصل بين جميع الفرق، أكد بإعادة الموصول فقال: { ومن في الأرض } إن أخلت غير العاقل فبالتغليب، وإن خصصت فبالعاقل أفهم خضوع غيره من باب الأولى. ولما ذكر ما يعم العاقل وغيره، أتبعه بأشرف ما ذكر مما لا يعقل لأن كلاًّ منهما عبد من دون الله أو عبد شيء منه فقال: { والشمس والقمر والنجوم } من الأجرام العلوية فعبد الشمس حمير، والقمر كنانة، والدبران تميم، والشعرى لخم، والثريا طيىء وعطارداً أسداً، والمرزم ربيعة - قاله أبو حيان. ثم أتبع ذلك أعلام الذوات السفلية فقال: { والجبال } أي التي تنحت منها الأصنام { والشجر } التي عبد بعضها { والدواب } التي عبد منها البقر، كل هذه الأشياء تنقاد لأمر الله، ومن المعلوم لكون هذه لا تعقل - أن أمره لها هو مراده منها.
ولما كان العقلاء من المكلفين قد دخلوا في قوله { ومن في الأرض } دخولاً أولياً، وكان السجود الممدوحون عليه إنما هو الموافق للأمر، لا الموافق للإرادة المجردة عن الأمر، قال دالاً على إرادته هنا بتكريرهم وتقسيمهم بعد إدخالهم في السجود الإدارة وتعميمهم: { وكثير من الناس } أي يسجد سجوداً هو منه عبادة شرعية فحق له الثواب { وكثير } أي منهم { حق عليه العذاب } بقيام الحجة عليه بكون لم يسجد، فجحد الأمر الذي من جحده كان كافراً وإن كان ساجداً عابداً بالمعنى اللغوي الذي هو الجري مع المراد، وعلى القول بأن هذا في تقدير عامل من لفظ الأول بغير معناه هو قريب من الاستخدام الذي يعلو فيه ضمير على لفظ مراد منه معنى آخر، والآية من الاحتباك: إثبات السجود في الأول دليل على انتفائه في الثاني، وذكر العذاب في الثاني دليل على حذف الثواب في الأول.
ولما علم بهذا أن الكل جارون مع الإرادة منقادون أتم انقياد تحت طوع المشيئة، وأنه إنما جعل الأمر والنهي للمكلفين سبباً لإسعاد السعيد منهم وإشقاء الشقي، لإقامة الحجة عليهم على ما يتعارفونه من أحوالهم فيما بينهم، كان المعنى: فمن يكرم الله بتوفيقه لا متثال أمره فما له من مهين، فعطف عليه: { ومن يهن الله } أي الذي له الأمر كله بمنابذة أمره { فما له من مكرم } لأنه لا قدرة لغيره أصلاً، ولعله إنما ذكره وطوى الأول لأن السياق لإظهار القدرة، وإظهارها في الإهانة أتم، مع أن أصل السياق للتهديد؛ ثم علل أن الفعل له لا لغيره بقوله: { إن الله } أي الملك الأعظم { يفعل ما يشاء* } أي كله، فلو جاز أن يمانعه غيره ولو في لحظة لم يكن فاعلاً لما يشاء، فصح أنه لا فعل لغيره، قال ابن كثير: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن شيبان الرملي نا القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه أنه قيل له: إن ههنا رجلاً يتكلم في المشيئة، فقال له علي: يا عبد الله خلقك الله كما شاء أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء، قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء؟ قال: بل حيث يشاء، قال: والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف، وقد مر في سورة يوسف عند
{ إن الحكم إلا لله عليه توكلت } [يوسف: 67] ما ينفع هنا.
ولما قسم الناس إلى مخالف ومؤالف، أتبعه جزاءهم بما يرغب المؤالف ويرهب المخالف على وجه موجب للأمر بالمعروف الذي من جملته الجهاد لوجهه خالصاً فقال: { هذان } أي الساجد والجاحد من جميع الفرق { خصمان } لا يمكن منهما المسالمة الكاملة إذ كل منهما في طرف.
ولما أشار بالتثنية إلى كل فرقة منهم صارت - مع كثرتها وانتشارها باتحاد الكلمة في العقيدة - كالجسد الواحد، صرح بكثرتهم بالتعبير بالجمع فقال: { اختصموا } أي أوقعوا الخصومة بغاية الجهد، ولما كانت الفرق المذكورة كلها مثبتة وقد جحد أكثرهم النعمة، قال: { في ربهم } أي الذي هم بإحسانه إليهم معترفون، لم يختصموا بسبب غيره أصلاً، وحمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله وعبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب - الذين هم أول من برز للمخاصمة بحضرة رسول الله - صلى الله عليه ورضي عنهم - للكفرة من بني عمهم: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، في غزوة بدر - أولى الناس بهذه الآية لما روي في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه "أنه كان يقسم أنها نزلت فيهم، ولذلك قال رضي الله عنه: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن عز وجل يوم القيامة للخصومة" أخرجه البخاري في صحيحه، ولعله رضي الله عنه أول الثلاثة، قام لمنابذتهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان أشبّهم.
ولما ذكر خصومتهم وشرطها، ذكر جزاءهم عليها في فصل الأمر الذي قدم ذكره، وبدأ بالترهيب لأن الإنسان إليه أحوج فقال: { فالذين كفروا } منابذين لأمر ربهم { قطعت } تقطيعاً لا يعلم كثرته إلا الله، بأيسر أمر ممن لا أمر لغيره { لهم } الآن وهيئت وإن وافقوا مراد ربهم بمخالفتهم أمره { ثياب من نار } تحيط بهم وهي على مقاديرهم سابغة عليهم كما كانوا يسلبون الثياب في الدنيا تعاظماً وتكبراً حال كونهم { يصب } إذا دخلوها { من فوق رؤوسهم الحميم* } أي الماء الحار حرارة لا يدري مقدارها إلا بالذوق - أعاذنا الله منه، واستأنف الإخبار عنه بقوله: { يصهر } أي يذاب، وأصله المخالطة الشديدة { به } من شدة حرارته { ما في بطونهم } من شحم وغيره { والجلود* } فيكون أثره في البطن والظاهر سواء { ولهم مقامع } جمع مقمعة بكسر ثم فتح، وهي عمود حديد يضرب به الرأس والوجه ليرد المضروب عن مراده رداً عنيفاً، ثم نفى المجاز بقوله: { من حديد* } أي يقمعون بها { كلما أرادوا } أي كلهم فالبعض بطريق الأولى { أن يخرجوا منها } أي من تلك الثياب أو من النار.
ولما كان السياق لخصومة أولياء الله المتصفين بما هو مقصود السورة من التقوى للكفار، المنابذين لها بكل اعتبار، اقتضى ذلك بشارة للأولياء ونذارة للأعداء - قوله زيادة على ما في السجدة: { من غم } عظيم لا يعلم قدر عظمه إلا الله { أعيدوا }، كل من { فيها } كأنهم يضربون بلهيب النار فيرفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً - قاله الحسن، أو أنهم يضطربون في تلك الثياب المقطعة من النار إلى أن يكادوا أن ينفصلوا منها وهم في النار ثم يردون كما كانوا، وذلك أشد في العذاب، مقولاً لهم: ارجعوا صاغرين مقاسين لغمومها { وذوقوا عذاب الحريق* } أي العذاب البالغ في الإحراق.