خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٣٦
لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٧
إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ
٣٨
-الحج

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما قدم سبحانه الحث على التقرب بالأنعام كلها، وكانت الإبل أعظمها خلقاً، وأجلها في أنفسهم أمراً، خصها بالذكر في سياق تكون فيه مذكورة مرتين معبراً بالاسم الدال على عظمها، أو أنه خصها لأنه خص العرب بها دون الأمم الماضية، فقال عاطفاً على قوله { جعلنا منسكاً } أو يكون التقدير والله أعلم: فأشركناكم مع الأمم الماضية في البقر والغنم { والبدن } أي الإبل أي المعروفة بعظم الأبدان - { جعلناها } أي بعظمتنا، وزاد في التذكير بالعظمة بذكر الاسم العلم فقال: { لكم من شعائر الله } أي أعلام دين الملك الأعظم ومناسكه التي شرعها لكم وشرع فيها الإشعار، وهو أن يطعن بحديدة في سنامها، تمييزاً لما يكون منها هدياً عن غيره.
ولما نبه على ما فيها من النفع الديني، نبه على ما هو أعم منه فقال: { لكم فيها خير } بالتسخير الذي هو من منافع الدنيا، والتقريب الذي هو من منافع الآخرة؛ روى الترميذي وحسنه وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من هراقة الدم، وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وأن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً" والدارقطني في السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد"
ولما ذكر ما فيها، سبب عنه الشكر فقال: { فاذكروا اسم الله } أي الذي لا سمي له { عليها } أي على ذبحها بالتكبير، حال كونها { صواف } قياماً معقلة الأيدي اليسرى، فلولا تعظيمه بامتثال شرائعه، ما شرع لكم ذبحها وسلطكم عليها مع أنها أعظم منكم جرماً وأقوى { فإذا وجبت جنوبها } أي سقطت سقوطاً بردت به بزوال أرواحها فلا حركة لها أصلاً، قال ابن كثير وقد جاء في حديث مرفوع "ولا تعجلوا النفس أن تزهق" وقد رواه الثوري في جامعه عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن فرافصة الحنفي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ذلك.
ولما كان ربما ظن أنه يحرم الأكل ممنها للأمر بتقريبها لله تعالى، قال نافياً لذلك: { فكلوا منها } إذا كانت تطوعاً إن شئتم الأكل، فإن ذلك لا يخرجها عن كونها قرباناً { وأطعموا القانع } أي المتعرض للسؤال بخضوع وانكسار { والمعتر } أي السائل، وقيل: بالعكس، وهو قول الشافعيرحمه الله ، قال في كتاب اختلاف الحديث: والقانع هو السائل، والمعتر هو الزائر والمار، قال الرازي في اللوامع: وأصله في اللغة أن القاف والنون والعين تدل على الإقبال على الشيء، ثم تختلف معانيه مع اتفاق القياس، فالقانع: السائل، لإقباله على من يساله، والقانع: الراضي الذي لا يسأل، كأنه مقبل على الشيء الذي هو راض به.
ولما كان تسخيرها لمثل هذا القتل على هذه الكيفية مع قوتها وكبرها أمراً باهراً للعقل عند التأمل، نبه عليه بالتحريك للسؤال عما هو أعظم منه فقال: { كذلك } أي مثل هذا التسخير العظيم المقدار { سخرناها } بعظمتنا التي لولاها ما كان ذلك { لكم } وذللناها ليلاً ونهاراً مع عظمها وقوتها، ولو شئنا جعلناها وحشية { لعلكم تشكرون* } أي لتتأملوا ذلك فتعرفوا أنه ما قادها لكم إلا الله فيكون حالكم حال من يرجى شكره، فتوقعوا الشكر بأن لا تحرموا منها إلا ما حرم، ولا تحلوا إلا ما أحل، وتشهدوا منها ما حث على إهدائه، وتتصرفوا فيها بحسب ما أمركم.
ولما حث على التقرب بها مذكوراً اسمه عليها، وكان من مكارم الأخلاق، وكان أكثرهم يفعله، وكانوا ينضحون البيت ونحوه بدماء قرابينهم، ويشرحون اللحم، ويضعونه حوله، زاعمين أن ذلك قربة، وقد كان بعض ذلك شرعاً قديماً، نبه سبحانه على نسخ ذلك بأن نبه على أن المقصود منه روحه لا صورته فقال: { لن ينال } أي يصيب ويبلغ ويدرك.
ولما كان السياق للحث على التقريب له سبحانه، كان تقديم اسمه على الفاعل أنسب للإسراع بنفي ما قد يتوهم من لحاق نفع أو ضر، فقال معبراً بالاسم العلم الذي حمى عن الشركة بكل اعتبار: { الله } أي رضا الملك الذي له صفات الكمال فلا يلحقه نفع ولا ضر { لحومها } المأكوله { ولا دماؤها } المهراقة { ولكن يناله التقوى } أي عمل القلب وهي الصفة المقصود بها أن تقي صاحبها سخط الله، وهي التي استولت على قلبه حتى حملته على امتثال اموامر التي هي نهايات لذلك، الكائنة { منكم } الحاملة على التقرب التي بها يكون له روح القبول، المحصلة للمأمول؛ قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن النية الخالصة خير من الأعمال الموظفة - انتهى. فإذا نالته سبحانه النية قبل العمل فتلقى اللقمة "فرباها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل جبل" "ووقع الدم منه بمكان" فالنفي لصورة لا روح لها والإثبات لذات الروح، فقد تفيد النية من غير عمل كما قال صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ما معناه.
"إن بالمدينة رجالاً ما نزلنا منزلاً ولا قطعنا وادياً إلا كانوا فيه حبسهم العذر" ولا يفيد العمل بغير نية، والنية هي التي تفيد الجزاء سرمداً والله الموفق؛ ثم كرر التنبيه على عظيم تسخيرها منبهاً على ما أوجب عليهم به فقال: { كذلك } أي التسخير العظيم { سخرها } أي الله الجامع لصفات الكمال { لكم } بعظمته وغناه عنكم { لتكبروا }.
ولما ذكر التكبير، صوره بالاسم الأعظم فقال: { الله } وضمن التكبير فعل الشكر، فكان التقدير: شاكرين له { على ما هداكم } أي على هدايتكم له والأمور العظيمة التي هداكم إليها.
ولما كان الدين لا يقوم إلا بالنذارة والبشارة، وكان السياق لأجل ما تقدم من شعائر الحج، ومعالم العج والثج - بالبشارة أليق، ذكرها مشيراً إلى النذارة بواو العطف ليؤذن أن التقدير: فأنذر أيها الداعي المسيئين: { وبشر المحسنين* } أي الذين أوجدوا الإحسان لأفعالهم صورة ومعنى.
ولما ذكر سبحانه الحج المذكر للمهاجرين بأوطانهم المخاصمة التي أنزلت في غزوة بدر، وذكر ما يفعل فيه من القربات، عظم اشتياق النفوس إلى ذلك وتذكرت علو المشركين الذي يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام وظهورهم ومنعهم لمن أراد هذه الأفعال، على هذه الأوصاف الخالصة، والأحوال الصالحة، وفتنتهم له، فأجابها سبحانه عن هذا السؤال بقوله: { إن الله } أي الذي لا كفوء له { يدافع عن الذين آمنوا } لأنهم بدخولهم في الإيمان لم يكونوا مبالغين في الخيانة ولا في الكفر فهو يحبهم، فكيف بالمحسنين الذين ختمت بهم الآية السالفة، أي فيظهرهم على عدوهم - هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب بغير ألف، وفي قراءة الباقين مبالغة بإخراج الفعل على المغالبة، فكأنه قال: بشرهم بأن الله يدفع عنهم، ولكنه تعالى أظهر الأوصاف ليفهم أنها مناط الأحكام والتعبير، فعبر بالفعل الماضي ترغيباً، أي لكل من أوقع هذا الوصف في الخارج إقياعاً ما دفع عنه؛ ثم علل ذلك بقوله: { إن الله } أي الذي له صفات الكمال { لا يحب } أي لا يكرم كما يفعل المحب { كل خوان } في أمانته، مانع لعباده من بيته الذي هو للناس سواء العاكف فيه والبادي { كفور } لنعمته بالتقرب إلى غيره، فهو يفعل مكارم الأخلاق صورة ليس فيها معنى أصلاً، لا يصححها بذكر الله وحده، ولا يجملها بالإحسان، وأتى بالصفتين على صيغة المبالغة لأن نقائص الإنسان لا يمكنه أن يفعلها خالية عن المبالغة، لأنه يخون نفسه بالعزم أولاً، والفعل ثانياً وغيره من الخلق ثالثاً، وكذا يخون نفسه ربه سبحانه وهكذا في الكفر وغيره، ولما كانت الخيانة منبع النقائص، كانت المبالغة فيها أكثر.