خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
٥٣
وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٥٤
وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ
٥٥
ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ
٥٦
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيٰتِنَا فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
٥٧
وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوۤاْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
٥٨
-الحج

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكر سبحانه ما حكم به من تمكين الشيطان من هذا الإلقاء، ذكر العلة في ذلك فقال: { ليجعل ما يلقي الشيطان } أي في المتلو أو المحدث به من تلك الشبه في قلوب أوليائه { فتنة } أي اختباراً وامتحاناً { للذين في قلوبهم مرض } لسفولها عن حد الاعتدال من اللين حتى صارت مائيته تقبل كل صورة ولا يثبت فيها صورة، وهم أهل النفاق المتلقفون للشبه الملقون لها { والقاسية قلوبهم } عن فهم الآيات، وهم من علت قلوبهم عن ذلك الجدال أن صارت حجرية، وهم المصارحون بالعداوة، فهم في ريب من أمرهم وجدال للمؤمنين، قد انتقشت فيها الشبه، فصارت أبعد شيء عن الزوال. ولما كان التقدير: فإنهم حزب الشيطان، وأعداء الرحمن، عطف عليه قوله. وإنهم هكذا الأصل، ولكنه أظهر تنبيهاً على وصفهم فقال: { وإن الظالمين } أي الواضعين لأقوالهم وأفعالهم في غير مواضعها كفعل من هو في الظلام { لفي شقاق } أي خلاف بكونهم في شق غير شق حزب الله بمعاجزتهم في الآيات بتلك الشبه التي تلقوها من الشيطان، وجادلوا بها أولياء الرحمن { بعيد* } عن الصواب { ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } [الأنعام: 113] { وليعلم الذين أوتوا العلم } بإتقان حججه، وإحكام براهينه، وضعف شبه المعاجزين، وبني فعله للمجهول تعظيماً لثمرته في حد ذاته لا بالنسبة إلى معط معين { أنه } أي الشيء الذي تلوته أو حدثت به { الحق } أي الثابت الذي لا يمكن زواله { من ربك } أي المحسن إليك بتعليمك إياه، فإن الحق كلما جودل أهله ظهرت حججه، وأسفرت وجوهه، ووضحت براهينه، وغمرت لججه، كما قال تعالى { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } } [البقرة: 26] { فيؤمنوا به } لما ظهر لهم من صحته بما ظهر من ضعف تلك الشبه { فتخبت } أي تطمئن وتخضع { له قلوبهم } وتسكن به قلوبهم، فإن الله جعل فيها السكينة فجعلها زجاجية صلبة صافية رقيقة بين المائية والحجرية، نافعة بفهم العلم وحفظه والهداية به لمن يقبل عنهم من الضالين كما ينفع الخبث بقبول طائفة منه لطائفة من الماء، وإنبات ما يقدره الله من الكلاء وغيره وحفظ طائفة أخرى لطائفة أخرى منه لشرب الحيوان { وإن الله } بجلاله وعظمته لهاديهم، ولكنه أظهر تنبيهاً على سبب العلم فقال: { لهاد الذين آمنوا } في جميع ما يلقيه أولياء الشيطان { إلى صراط مستقيم* } يصلون به إلى معرفة بطلانه، فيوصلهم ذلك إلى سعادة الدارين { ولا يزال الذين كفروا } أي وجد منهم الكفر وطبعوا عليه { في مرية } أي شك يطلبون السكون إليه { منه } أي من أجل إلقاء الشيطان وما ألقاه، أو مبتدىء منه { حتى تأتيهم الساعة } أي الموت أو القيامة { بغتة } أي فجأة بموتهم حتف الأنف { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم* } يقتل فيه جميع أبنائهم منهم ولا يكون لهم فيه شيء مما يترجونه من نصر أو غيره كما سعوا بجدلهم وإلقاء الضلالات في إعقام الآيات، فإذا انكشف لهم الغطاء بالساعة أو العذاب الموصل إلى حد الغرغرة آمنوا دأب البهائم التي لا ترى إلا الجزئيات، فلم ينفعهم ذلك لفوات شرطه، وقد زالت بحمد الله عن هذه الآية - بما قررته الشكوك، وانفضحت مخيلات الشبه، وانقمعت مضلات الفتن، من قصة الغرانيق وما شاكلها مما يتعالى عنه ذلك الجناب الرفيع، والحمى العظيم المنيع، ولم يصح شيء من ذلك كما صرح به الحافظ عماد الدين ابن كثير وغيره كيف وقد منع الشيطان من مثاله صلى الله عليه وسلم في المنام، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه "من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي" وقد تولى الله سبحانه حفظ الذكر الحكيم بحراسة السماوات وغيرها { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } { إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } } [الجن: 27].
ولما كانوا من الكثرة والقوة بمكان كان كأنه قيل: كيف يغلبون؟ فقال جواباً عن ذلك: { الملك يومئذ } أي يوم إذ يأتيهم ذلك إما في القيامة أو في الدنيا { لله } أي المحيط بجميع صفات الكمال وحد بتغليب اسمه الظاهر، بأن يجري أمره فيه على غير الأسباب التي تعرفونها.
ولما كان كأنه قيل: ما معنى اختصاصه به وكل الأيام له؟ قيل: { يحكم بينهم } أي بين المؤمنين والكافرين بالأمر الفيصل، لا حكم فيه ظاهراً ولا باطناً لغيره، كما ترونه الآن، بل يمشي فيه الأمر على أتم قوانين العدل، ولذلك سبب ظهور العدل عنه قوله مفصلاً بادئاً. إظهاراً لتفرده بالحكم بإكرام من كانوا قاطعين بهوانهم في الدارين مع أن تقديمهم أوفق لمقصود السورة: { فالذين آمنوا وعملوا } أي وصدقوا دعواهم الإيمان بأن عملوا { الصالحات } وهي ما أمرهم الله به.
ولما كانت إثابته تعالى لأهل طاعته تفضلاً منه، نبه على ذلك بإعراء الخبر عن الفاء السببية بخلاف ما يأتي في حق الكفار فقال: { في جنات النعيم* } في الدنيا مجازاً، لمآلهم إليهم مع ما يجدونه من لذة المناجاة واستشعار القرب وفي الآخرة حقيقة بما رحمهم الله به من توفيقهم للأعمال الصالحة { والذين كفروا } أي غطوا ما أعطيناهم من المعرفة بالأدلة على وحدانيتنا { وكذبوا بآياتنا } ساعين - بما أعطيناهم من الفهم في تعجيزها بالمجادلة بما يوحي إليهم أولياؤهم من الشياطين من الشبه، وقرن الخبر بالفاء إيذاناً بأنه مسبب عن كفرهم فقال: { فأولئك } أي البعداء عن أسباب الكرم { لهم عذاب مهين* } بسبب ما سعوا في إهانة آياتنا مريدين إعزاز أنفسهم بمغالبتها والتكبر عن اتباعها.
ولما كان المشركون يمنعون بهذ الشبه وغيرها كثيراً من الناس الإيمان، وكانوا لا يتمكنون بها إلا ممن يخالطهم، رغب سبحانه في ا لهجرة فقال: { والذين هاجروا } أي أوقعوا هجرة ديارهم وأهليهم { في سبيل الله } أي طريق ذي الجلال والإكرام التي شرعها، فكانت ظرفاً لمهاجرتهم، فلم يكن لهم بها غرض آخر. ولما كان أكثر ما يخاف من الهجرة القتل. لقصد الأعداء للمهاجر بالمصادمة، عند تحقق المصارمة، قال معبراً بأداة التراخي إشارة إلى طول العمر وعلو الرتبة بسبب الهجرة: { ثم قتلوا } أي بعد الهجرة، وألحق به مطلق الموت فضلاً منه فقال: { أو ماتوا } أي من غير قتل { ليرزقنهم الله } أي الملك الأعلى { رزقاً حسناً } من حين تفارق أرواحهم أشباحهم لأنهم أحياء عند ربهم، وذلك لأنهم أرضوا الله بما انخلعوا منه مما أثلوه طول أعمارهم. وأثله آباؤهم من قبلهم، وأموالهم وأهليهم وديارهم.
ولما كان التقدير: فإن الله فعال ما يريد من إحيائهم ورزقهم وغيره، عطف عليه قوله: { وإن الله } أي الجامع لصفات الكمال بعظمته وقدرته على الإحياء كما قدر على الإماتة { لهو خير الرازقين* } يرزق الخلق عامة البر منهم والفاجر، فكيف بمن هاجر إليه! ويعطي عطاء لا يدخله عد، ولا يحويه حد، وكما دلت الآية على تسوية من مات في سبيل الله برباط أو غيره في الرزق بالشهيد، دلت السنة أيضاً من حديث سلمان وغيره رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من مات مرابطاً أجري عليه الرزق وأمن الفتانين" .