خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ
١٤
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ
١٥
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ
١٦
-المؤمنون

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان تصيير الماء دماً أمراً بالغاً خارجاً عن التسبيب، وكانت النطفة التي هي مبدأ الآدمي تفسد تارة وتأخذ في التكون أخرى، عبر بالخلق لما يخلطها به مما تكتسبه من الرحم عند التحمير وقرنه بأداة التراخي فقال: { ثم } أي بعد تراخ في الزمان وعلو في الرتبة والعظمة { خلقنا } أي بما لنا من العظمة { النطفة } أي البيضاء جداً { علقة } حمراء دماً عبيطاً شديد الحمرة جامداً غليظاً.
ولما كان ما بعد العلقة من الأطوار المتصاعدة مسبباً كل واحد منه عما قبله بتقدير العزيز العليم الذي اختص به من غير تراخ، وليس تسببه من العادة التي يقدر عليها غيره سبحانه، عبر بالفاء والخلق فقال: { فخلقنا العلقة مضغة } أي قطعة لحم صغيرة لا شكل فيها ولا تخطيط { فخلقنا المضغة } بتصفيتها وتصليبها بما سببنا لها من الحرارة والأمور اللطيفة الغامضة { عظاماً } من رأس ورجلين وما بينهما { فكسونا } بما لنا من قدرة الاختراع، تلك { العظام لحماً } بما ولدنا منها ترجيعاً لحالها قبل كونها عظماً، فسترنا تلك العظام وقويناها وشددناها بالروابط والأعصاب.
ولما كان التصوير ونفخ الروح من الجلالة بمكان أيّ مكان، أشار إليه بقوله: { ثم أنشأناه } أي هذا المحدث عنه بعظمتنا { خلقاً آخر } أي عظيماً جليلاً متحركاً ناطقاً خصيماً مبيناً بعيداً من الطين جداً؛ قال الرازي: وأصل النون والشين والهمزة يدل على ارتفاع شيء وسموه.
ولما كان هذا التفصيل لتطوير الإنسان سبباً لتعظيم الخالق: { فتبارك } أي ثبت ثباتاً لم يثبته شيء، بأن حاز جميع صفات الكمال، وتنزه عن كل شائبة نقص، فكان قادراً على كل شيء، ولو داناه شيء من عجز لم يكن تام الثبات، ولذلك قال: { الله } فعبر بالاسم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى؛ وأشار إلى جمال الإنسان بقوله: { أحسن الخالقين* } أي المقدرين، أي قدر هذا الخلق العجيب هذا التقدير، ثم طوره في أطواره ما بين طفل رضيع، ومحتلم شديد، وشاب نشيط، وكهل عظيم، وشيخ هرم - إلى ما بين ذلك من شؤون لا يحيط بها إلا اللطيف الخبير.
ولما كانت إماتة ما صار هكذا - بعد القوة العظيمة والإدراك التام - من الغرائب، وكان وجودها فيه وتكرارها عليه في كل وقت قد صيرها أمراً مألوفاً، وشيئاً ظاهراً مكشوفاً، وكان عتو الإنسان على خالقه وتمرده ومخالفته لأمره نسياناً لهذا المألوف كالإنكار له، أشار إلى ذلك بقوله تعالى مسبباً مبالغاً في التأكيد: { ثم إنكم } ولما كان من الممكن ليس له من ذاته إلا العدم، نزع الجار فقال: { بعد ذلك } أي الأمر العظيم من الوصف بالحياة والمد في العمر في آجال متفاوتة { لميتون* } وأشار بهذا النعت إلى أن الموت أمر ثابت للإنسان حيّ في حال حياته لازم له، بل ليس لممكن من ذاته إلا العدم.
ولما تقرر بذلك القدرة على البعث تقرراً لا يشك فيه عاقل، قال نافياً ما يوهمه إعراء الظرف من الجار: { ثم إنكم } وعين البعث الأكبر التام، الذي هو محط الثواب والعقاب، لأن من أقر بما هو دونه من الحياة في القبر وغيرها، فقال: { يوم القيامة } أي الذي يجمع فيه جميع الخلائق { تبعثون* } فنقصه عن تأكيد الموت تنبيهاً على ظهوره، ولم يخله عن التأكيد لكونه على خلاف العادة، وليس في ذكر هذا نفي للحياة في القبر عند السؤال.