خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ
١٢
لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَـٰئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ
١٣
وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٤
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٌ
١٥
وَلَوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ
١٦
-النور

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أخبر سبحانه وتعالى بعقابهم، وكان من المؤمنين من سمعه فسكت، وفيهم من سمعه فتحدث به متعجباً من قائله، أو مستثبتاً في أمره، ومنهم من كذبه، أتبعه سبحانه بعتابهم، في أسلوب خطابهم، مثنياً على من كذبه، فقال مستأنفاً محرضاً: { لولا } أي هلا ولم لا { إذ سمعتموه } أيها المدعون للإيمان. ولما كان هذا الإفك قد تمالأ عليه رجال ونساء قال: { ظن المؤمنون } أي منكم { والمؤمنات } وكان الأصل: ظننتم، ولكنه التفت إلى الغيبة تنبيهاً على التوبيخ، وصرح بالنساء، ونبه على الوصف المقتضي لحسن الظن تخويفاً للذي ظن السوء من سوء الخاتمة: { بأنفسهم } حقيقة { خيراً } وهم دون من كذب عليها، فقطعوا ببراءتها لأن الإنسان لا يظن بالناس إلا ما هو متصف به أو بإخوانهم، لأن المؤمنين كالجسد الواحد، أو ظنوا ما يظن بالرجل لو خلا بأمه، وبالمرأة إذا خلت بابنها، فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين { وقالوا هذا إفك } أي كذب عظيم خلف منكب على وجهه { مبين* } أي واضح في نفسه، موضح لغيره، وبيانه وظهوره أن المرتاب يكاد يقول: خذوني فهو يسعى في التستر جهده، فإتيان صفوان بعائشة رضي الله عنها راكبة على جملة داخلاً به الجيش في نحر الظهيرة والناس كلهم يشاهدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ينزل عليه الوحي، إدلالاً بحسن عمله، غافلاً عما يظن به أهل الريب، أدل دليل على البراءة وكذب القاذفين، ولو كان هناك أدنى ريبة لجاء كل منهما وحده على وجه من التستر والذعر، تعرف به خيانته، فالأمور تذاق، ولا يظن الإنسان بالناس إلا ما في نفسه، ولقد عمل أبو أيوب الأنصاري وصاحبته رضي الله عنهما بما أشارت إليه هذه الآية؛ قال ابن اسحاق: حدثني أبي إسحاق بن يسار عن بعض رجال بني النجار أن أبا أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال: بلى وذلك كذب، أكنت يا أم أيوب فاعلة؟ قالت لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك. وروى البغوي أنه قال: سبحانك هذا بهتان عظيم، فنزلت الآية على وفق قوله رضي الله عنه. ثم علل سبحانه بيان كذب الآفكين بأن قال موبخاً لمن اختلقه وأذاعه ملقناً لمن ندبه إلى ظن الخير: { لولا } أي هلا ولم لا { جاءو } أي المفترون له أولاً { عليه } إن كانوا صادقين { بأربعة شهداء } كما تقدم أن القذف لا يباح إلا بها.
ولما تسبب عن كونهم لم يأتوا بالشهداء كذبهم قال: { فإذ } أي فحين { لم يأتوا بالشهداء } أي الموصوفين { فأولئك } أي البعداء من الصواب { عند الله } أي في حكم الملك الأعلى، بل وفي هذه الواقعة بخصوصها في علمه { هم الكاذبون* } أي الكذب العظيم ظاهراً وباطناً.
ولما بين لهم بإقامة الدليل على كذب الخائضين في هذا الكلام أنهم استحقوا الملام، وكان ذلك مرغباً لأهل التقوى، بين أنهم استحقوا بالتقصير في الإنكار عموم الانتقام في سياق مبشر بالعفو، فقال عاطفاً على { ولولا } الماضية: { ولولا فضل الله } أي المحيط بصفات الكمال { عليكم ورحمته } أي معاملته لكم بمزيد الإنعام، الناظر إلى الفضل والإكرام، اللازم للرحمة { في الدنيا } بقبول التوبة والمعاملة بالحلم { والآخرة } بالعفو عمن يريد أن يعفو عنه منكم { لمسكم } أي عاجلاً عموماً { في ما أفضتم } أي اندفعتم على أي وجه كان { فيه } بعضكم حقيقة، وبعضكم مجازاً بعدم الإنكار { عذاب عظيم* } أي يحتقر معه اللوم والجلد، بأن يهلك فيتصل به عذاب الآخرة؛ ثم بين وقت حلوله وزمان تعجيله بقوله: { إذ } أي مسكم حين { تلقونه } أي تجتهدون في تلقي أي قبول هذا الكلام الفاحش وإلقائه { بألسنتكم } بإشاعة البعض وسؤال آخرين وسكوت آخرين { وتقولون } وقوله: { بأفواهكم } تصوير لمزيد قبحه، وإشارة إلى أنه قول لا حقيقة له، فلا يمكن ارتسامه في القلب بنوع دليل؛ وأكد هذا المعنى بقوله: { ما ليس لكم به علم } أي بوجه من الوجوه، وتنكيره للتحقير { وتحسبونه } بدليل سكوتكم عن إنكاره { هيناً وهو } أي والحال أنه { عند الله } أي الذي لا يبلغ أحد مقدار عظمته { عظيم* } أي في حد ذاته ولو كان في غير أم المؤمنين رضي الله عنها، فكيف وهو في جنابها المصون، وهي زوجة خاتم الأنبياء وإمام المرسلين عليه أفضل الصلاة وأفضل التسليم.
ولما بين فحشه وشناعته، وقبحه وفظاعته، عطف على التأديب الأول في قوله { لولا إذ سمعتموه } تأديباً فقال: { ولولا إذ } أي وهلا حين { سمعتموه قلتم } أي حين السماع من غير توقف ولا تلعثم، وفصل بين آلة التحضيض والقول المحضض عليه بالظرف لأن الظروف تنزل من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيها، وأنها لا انفكاك لها عنه، ولأن ذكره منبه على الاهتمام به لوجوب المبادرة إلى المحضض عليه: { ما يكون } أي ما ينبغي وما يصح { لنا أن نتكلم } حقيقة بالنطق ولا مجازاً بالسكوت عن الإنكار { بهذا } أي بمثله في حق أدنى الناس فكيف بمن اختارها العليم الحكيم لصحبة أكمل الخلق، ثم دللتم على شدة نفرتكم منه بأن وصلتم بهذا النفي قولكم: { سبحانك } تعجباً من أن يخطر بالبال، في حال من الأحوال.
ولما كان تنزيه الله تعالى في مثل ذلك وإن كان للتعجب إشارة إلى تنزيه المقام الذي وقع فيه التعجب تنزيها عظيماً، حسن أن يوصل بذلك قوله تعليلاً للتعجب والنفي: { هذا بهتان } أي كذب يبهت من يواجه به، ويحيره لشدة ما يفعل في القوى الباطنة، لأنه في غاية الغفلة عنه لكونه أبعد الناس منه؛ ثم هوله بقوله: { عظيم* } والمراد أن الذي ينبغي للإنسان أولاً أن لا يظن بإخوانه المؤمنين ولا يسمع فيهم إلا خيراً، فإن غلبه الشيطان وارتسم شيء من ذلك في ذهنه فلا يتكلم به، ويبادر إلى تكذيبه.