ولما كان الكفار من الكثرة والقوة بمكان، كان الحال جديراً بتأكيد معنى
التمكين، جواباً لسؤال من كأنه قال: وهل ذلك ممكن فقال: { لا تحسبن } أي أيها
المخاطب { الذين كفروا } أي وإن زادت كثرتهم على العد، وتجاوزت عظمتهم الحد،
فإن ذلك الحسبان ضعف عقل، لأن الملك لا يعجزه من تحت قهره، ويجوز أن يكون
خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم لزيادة تحقيقه، لأنه على قدر عظمة المخاطب يكون إنجاز الوعد
{ معجزين } لأهل ودنا { في الأرض } فإنهم مأخوذون لا محالة { ومأواهم } أي
مسكنهم ومنزلهم بعد الأخذ { النار }. ولما كانت سكنى الشيء لا تكون إلا بعد
الصيرورة إليه قال: { ولبئس المصير* } مصيرها! فكيف إذا كان على وجه السكنى.
ولما كان الملل من شيم النفوس، فكان تدريج الكلام في المقاصد لا سيما
الأحكام شيئاً فشيئاً خلال مقاصد أخرى أوقع في القلب، وأشهى إلى الطبع، لا سيما
إذا كان على وجوه من المناسبات عجيبة، وضروب من الاتصالات هي مع دقتها غريبة،
زين الله تأصيلها بتفصيلها فابتدأ السورة بطائفة منها، وفصلها بدر الوعظ، وجواهر
الحكم، والحث على معالي الأخلاق، ومكارم الأعمال، ثم وصلها بالإلهيات التي هي
أصولها، وعن علي مقاماتها تفرعت فصولها، فلما ختمها بالتمكين لأهل هذا الدين،
وتوهين أمر المعتدين، شرع في إكمالها، بإثبات بقية أحوالها، تأكيداً لما حكم به من
التمكين، وما ختمه من ذلك من التوهين، وتحذيراً مما ختمه من العذاب المهين،
وتحقيقاً لما ألزم به من الطاعة، ولزوم السنة والجماعة، فقال واصلاً بما ختم به
الأحكام الأولى، من الأمر بإنكاح الأيامى، والكف عن إكراه البغايا، إثر الذين لم
يظهروا على عورات النساء: { يا أيها الذين آمنوا } أي من الرجال والنساء، إما للتغليب،
وإما لأن النساء أولى بحفظ العورة { ليستأذنكم } تصديقاً لدعوى الإيمان { الذين ملكت
أيمانكم } من العبيد والإماء البالغين، ومن قاربهم، للدخول عليكم كراهة الاطلاع على
عوراتكم والتطرق بذلك إلى مساءتكم { والذين } ظهروا على عورات النساء، ولكنهم
{ لم يبلغوا الحلم } وقيده بقوله: { منكم } ليخرج الأرقاء والكفار { ثلاث مرّات } في
كل دور، ويمكن أن يراد: ثلاث استئذانات في كل مرة، فإن لم يحصل الإذن رجع
المستأذن كما تقدم: المرة الأولى من الأوقات الثلاث { من قبل صلاة الفجر } لأنه
وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم { و } الثانية { حين تضعون ثيابكم } أي التي
للخروج بين الناس { من الظهيرة } للقائلة { و } الثالثة { من بعد صلاة العشاء } لأنه
وقت الانفصال من ثياب اليقظة، والاتصال بثياب النوم، وخص هذه الأوقات لأنها
ساعات الخلوة، ووضع الثياب، وأثبت من في الموضعين دلالة على قرب الزمن من
الوقت المذكور لضبطه، وأسقطها في الأوسط دلالة على استغراقه لأنه غير منضبط، ثم
علل ذلك بقوله: { ثلاث عورات } أي اختلالات في التستر والتحفظ، وأصل العورة -
كما قال البيضاوي: الخلل. لأنه لما كانت العورة تبدو فيها سميت بها { لكم } لأنها
ساعات وضع الثياب والخلوة بالأهل، وبين حكم ما عدا ذلك بقوله مستأنفاً: { ليس
عليكم } أي في ترك الأمر { ولا عليهم } يعني العبيد والخدم والصبيان، في ترك
الاستئذان { جناح } أي إثم، وأصله الميل { بعدهن } أي في جميع ما سوى هذه الأوقات إذا هجموا عليكم؛ ثم علل الإباحة في غيرها، مخرجاً لغيرهم، مبيناً أن حكمة الاستئذان في كل وقت كما مضى بقوله: { طوافون عليكم } أي لعمل ما تحتاجونه في
الخدمة كما أنتم طوافون عليهم لعمل ما يصلحهم ويصلحكم في الاستخدام { بعضكم }
طواف { على بعض } لعمل ما يعجز عنه الآخر أو يشق عليه فلو عم الأمر بالاستئذان
لأدى إلى الحرج.
ولما أعلى سبحانه البيان في هذه الآيات إلى حد يعجز الإنسان لا سيما وهي في
الأحكام، والكلام فيها يعيي أهل البيان، وكان السامع لما جبل عليه من النسيان، يذهل
عن أن هذا هو الشأن، في جميع القرآن، قال مشيراً إلى عظم شأنها، في تفريقها
وبيانها: { كذلك } أي مثل هذا البيان { يبين الله } بما له من إحاطة العلم والقدرة
{ لكم } أيتها الأمة الخاصة { الآيات } في الأحكام وغيرها وبعلمه وحكمته { والله } الذي
له الإحاطة العامة بكل شيء { عليم } بكل شيء { حكيم* } يتقن ما يريده، فلا يقدر أحد على نقضه، وختم الآية بهذا الوصف يدل على أنها محكمة لم تنسخ كما قال
الشعبي وغيره - أفاده ابن كثير، وحُكي مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن
جبير.
ولما بين حكم الصبيان والأرقاء الذين هم أطوع للأمر، وأقبل لكل خير، أتبعه
حكم البالغين من الأحرار فقال: { وإذا بلغ الأطفال منكم } أي من أحراركم { الحلم }
أي السن الذي يكون فيه إنزال المني برؤية الجماع في النوم، هذا أصله، والمراد سن
مطلق الإنزال { فليستأذنوا } على غيرهم في جميع الأوقات { كما استأذن الذين من
قبلهم } على ما بين في أول الآيات القائلة { لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا }
ونقل ابن كثير عن يحيى بن أبي كثير وسعيد بن جبير أن الغلام إذا كان رباعياً فإنه
يستأذن في العورات الثلاث على أبويه، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال.
ولما كانت آيات الاستئذان أتقن حاسم لمواد الشر، وتركها أعظم فاتح لأبواب
الفتن، وكان إخراج الكلام، في أحكام الحلال والحرام، مع التهذيب والبيان، في
النهاية من الصعوبة، وكان فطم النفوس عما ألفت في غاية من العسر شديدة، أشار
سبحانه إلى ذلك بتكرير آية البيان، إشارة إلى أنها - لما لها من العلو - جديرة بالتأكيد،
وإلى أن البلغاء يستبعدون القدرة على البيان كلما أريد على هذا السنن فقال: { كذلك }
أي مثل ذلك البيان الذي بينه في آيات الأحكام { يبين الله } بما له من صفات الكمال
{ لكم } مع ما لكم من خلال النقص { آياته } أي العلامات الدالة عليه من هذه الفرعيات
وما رقت إليه الأصليات، فأضافها إليه سبحانه تعظيماً لها، إشارة إلى أنها مقدمة
للآيات الإلهيات، لأن من لم يتفرغ من مكدرات الأفكار، لم يطر ذلك المطار، وحثاً
على تدبر ما تقدم منها لاستحضار ما دعت إليه من الحكم، وفصلت به من المواعظ،
وتنبيهاً على ما فيها من العلوم النافعة ديناً ودنيا، وزاد في الترغيب في العلم والحكمة
إشارة إلى أن ذلك سبب كل سعادة فقال: { والله } أي المحيط بكل شيء { عليم
حكيم* } روى الطبراني وغيره "عن أنس رضي الله عنه قال: لما كانت صبيحة احتلمت
دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أني قد احتلمت، فقال: لا تدخل على النساء، فما أتى
عليّ يومٌ كان أشد منه" .
ولما ذكر سبحانه اقتبال الشباب، في تغيير حكم الحجاب، أتبعه الحكم عند إدبار
الشباب، في إلقاء الظاهر من الثياب، فقال: { والقواعد } وحقق الأمر بقوله: { من
النساء } جمع قاعد، وهي التي قعدت عن الولد وعن الحيض كبراً وعن الزوج. ولما
كان هذا الأخير قطبها قال: { اللاتي لا يرجون نكاحاً } أي لعدم رغبتهن فيه أو
لوصولهن إلى حد لا يرغب فيهن معه { فليس عليهن جناح } أي شيء من الحرج في
{ أن يضعن ثيابهن } أي الظاهرة فوق الثياب الساترة بحضرة الرجال بدليل قراءة ابن
مسعود رضي الله عنه { من ثيابهن } قال أبو صالح: تضع الجلباب، وهو ما يغطي ثيابها
من فوق كالملحفة، وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار { غير متبرجات بزينة } أي
متعمدات - بوضع ما أبيح لهن وضعه إظهار وجوههن مع الزينة، أو غير متظاهرات
بالزينة، قال في الجمع بين العباب والمحكم: تبرجت المرأة: أظهرت وجهها. وفي
القاموس: تبرجت: أظهرت زينتها للرجال - انتهى. ومادة برج تدور على الظهور كما
مضى في الحجر؛ وقال البيضاوي: وأصل البرج التكلف في إظهار ما يخفى - انتهى.
وكأنه أشير بصيغة التفعل إلى أن ما ظهر منها من وجهها أو زينتها عفواً غير مقصود به
الفساد لا حرج فيه.
ولما ذكر الجائز، وكان إبداء الوجه داعياً إلى الريبة، أشار إليه بقوله ذاكراً
المستحب، بعثاً على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها: { وأن يستعففن } أي يطلبن العفة
بدوام الستر وعدم التخفف بإلقاء الجلباب والخمار { خير لهن } من الإلقاء المذكور.
ولما كان ما ذكر من حالهن من الخلطة على ذلك الوصف معلوماً أنه لا يخلو عن
كلام، كان التقدير: فالله في وضع الحرج عنهن رؤوف بهن رحيم، عطف عليه قوله:
{ والله } أي الذي له جميع صفات الكمال { سميع } أي لكلامهن إذا خاطبن الرجال هل
يخضعن فيه ويتصنعن في ترخيم الصوت به أو يلقينه على الحالة المعروفة غير المنكرة
{ عليم* } بما يقصدن به وبكل شيء.