خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا ٱسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمُ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٦٢
لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٦٣
أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ
٦٤
-النور

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان سبحانه قد نفى عنهم الإيمان بالتولي عن الأحكام، وتلاه بما رأيت أن تظمه أحسن نظام، حتى ختم بما أومأ إلى أن من عمي عن أحكامه بعد هذا البيان مسلوب العقل، وكرر في هذه السورة ذكر البيان، تكريراً أشار إلى لمعان المعاني بأمتن بنان حتى صارت مشخصات للعيان، وبين من حاز وصف الإيمان، بحسن الاستئذان، وكان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أجلّ موطن تجب الإقامة فيه ويهجر ما عداه من الأوطان، فتصير الأرض برحبها ضيقة لأجله، محظوراً سلوكها مِن جرّاه، بمنزلة بيت الغير الذي لا يحل دخوله بغير إذن، قال معرفاً بذلك على طريق الحصر مقابلاً لسلب { وما أولئك بالمؤمنين } [المائدة: 43] مبيناً عظيم الجناية في الذهاب عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم المقتضي للجمع من غير إذن: { إنما المؤمنون } أي الكاملون الذين لهم الفلاح { الذين آمنوا بالله } أي الملك الأعلى { ورسوله } ظاهراً وباطناً.
ولما كان الكلام في الراسخين، كان الموضع لأداة التحقيق فقال: { وإذا } أي وصدقوا إيمانهم بأنهم إذا { كانوا معه } أي الرسول صلى الله عليه السلام { على أمر جامع } أي لهم على الله، كالجهاد لأعداء الله، والتشاور في مهم، وصلاة الجمعة، ونحو ذلك { لم يذهبوا } عن ذلك الأمر خطوة إلى موضع من الأرض ولو أنه بيوتهم، لشيء من الأشياء ولو أنه أهم مهماتهم، لأنه أخذ عليهم الميثاق بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره { حتى يستأذنوه } فيأذن لهم، لأن المأمور به قد صار منزلهم ومأواهم ومتبوأهم، وصار كل ما سواه من الأماكن والأمور له عليه الصلاة والسلام دونهم، لا حظ لهم فيه، فلا يحل لهم أن يدخلوه حساً أو معنى إلا بإذنه، وهذا من عظيم النتبيه على عليّ أمره، وشريف قدره، وذلك أنه سبحانه كما أمرهم بالاستئذان عند الدخول عليه وعلى غيره، أفرده بأمرهم باستئذانه عند الانصراف عنه صلى الله عليه وسلم، وجعل رتبة ذلك تالية لرتبة الإيمان بالله والرسول، وجعلهما كالتسبيب له مع تصدير الجملة بأداة الحصر، وإيقاع المؤمنين في مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطت وصلته بالرتب الثلاث شرحاً له.
ولما نفى عن المؤمنين الذهاب إلى غاية الاستئذان، فأفهم أن المستأذن مؤمن، صرح بهذا المفهوم ليكون آكد، فقال تشديداً في الإخلال بالأدب بين يديه صلى الله عليه وسلم، وتأكيداً لحفظ حرمته والأدب معه لئلا يتشوش فكره في أسلوب آخر، وبياناً لأن الاستئذان مصداق الإيمان: { إن الذين يستأذنونك } أي يطلبون إذنك لهم إذا أرادوا الانصراف، في شيء من أمورهم التي يحتمل أن تمنع منها { أولئك } العالو الرتبة خاصة { الذين يؤمنون } أي يوجدون الإيمان في كل وقت { بالله } الذي له الأمر كله فلا كفوء له { ورسوله } وذلك ناظم لأشتات خصال الإيمان.
ولما قصرهم على الاستئذان، تسبب عن ذلك إعلامه صلى الله عليه وسلم بما يفعل إذ ذاك فقال: { فإذا استأذنوك } أي هؤلاء الذين صحت دعواهم؛ وشدد عليهم تأكيداً لتعظيم الأدب معه صلى الله عليه وسلم بقوله: { لبعض شأنهم } وهو ما تشتد الحاجة إليه { فأذن لمن شئت منهم } قيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة فمن اراد أن يخرج لعذر قام بحياله فيعرف أنه يستأذن فيأذن لمن شاء، قال مجاهد: وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده، وقيل: كذلك ينبغي أن يكون الناي مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم لا يخذلونهم في نازلة من النوازل.
ولما أثبت له بهذا التفويض من الشرف ما لا يبلغ وصفه، أفهمهم أن حال المستأذن قاصرة عن حال المفوض الملازم كيفما كانت، فقال: { واستغفر لهم الله } أي الذي له الغنى المطلق، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، أو يكون الكلام شاملاً لمن صحت دعواه وغيره؛ ثم علل ذلك ترغيباً في الاستغفار، وتطييباً لقلوب أهل الأوزار، بقوله: { إن الله } أي الذي له صفات الكمال { غفور } أي له هذا الوصف فهو جدير بأن يغفر لهم ما قصروا فيه { رحيم* } أي فكل ما أمرهم به فهو خير لهم وإن تراءى لهم خلافه.
ولما أظهرت هذه السورة بعمومها، وهذه الآيات بخصوصها، من شرف الرسول ما بهر العقول، لأجل ما وقع للمنافق من التجرؤ على ذلك الجناب الأشم، والمنصب الأتم، وعلم منه أن له صلى الله عليه وسلم في كل أمره وجميع شأنه خصوصية ليست لغيره، صرح بذلك تفخيماً للشأن، وتعظيماً للمقام، ليتأدب من ناضل عن المنافق، أو توانى في أمره فقصر عن مدى أهل السوابق، فقال منبهاً على أن المصائب سبب لإظهار المناقب أو إشهار المعايب { لا تجعلوا } أي ايها الذين آمنوا { دعاء الرسول } أي لكم الذي يوقعه { بينكم } ولو على سبيل العموم، في وجوب الامتثال { كدعاء بعضكم بعضاً } فإن أمره عظيم، ومخالفته استحلالاً كفر، ولا تجعلوا أيضاً دعاءكم إياه كدعاء بعضكم لبعض بمجرد الاسم، بل تأدبوا معه بالتفخيم والتبجيل والتعظيم كما سن الله بنحو: يا ايها النبي، ويا أيها الرسول، مع إظهار الأدب في هيئة القول الفعل بخفض الصوت والتواضع.
ولما كان بعضهم يظهر المؤالفة، ويبطن المخالفة، حذر من ذلك بشمول علمه وتمام قدرته، فقال معللاً مؤكداً محققاً معلماً بتجديد تعليق العلم الشهودي كلما جدد أحد خيانة لدوام اتصافه بإحاطة العلم من غير نظر إلى زمان: { قد يعلم الله } أي الحائز لجميع صفات المجد إن ظننتم أن ما تفعلونه من التستر يخفي أمركم على رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو سبحانه يعلم { الذين يتسللون } وعين أهل التوبيخ بقوله: { منكم } أي يتكلفون سلَّ أنفسهم ليجعلوا ذهابهم في غاية الخفاء { لواذاً } أي تسللاً مستخفين به بتستر بعضهم فيه ببعض؛ يقال: لاذ بالشيء لوذاً ولواذاً وملاوذة: استتر وتحصن، فهو مصدر لتسلل من غير لفظه، ولعله أدخل "قد" على المضارع ليزيد أهل التحقيق تحقيقاً، ويفتح لأهل الريب إلى الاحتمال طريقاً، فإنه يكفي في الخوف من النكال طروق الاحتمال؛ وسبب عن علمه قوله: { فليحذر } أي يوقع الحذر { الذين يخالفون } أي يوقعون مخالفته بالذهاب مجاوزين معرضين { عن أمره } أي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى خلافه { أن تصيبهم فتنة } أي شيء يخالطهم في الدنيا فيحل أمورهم إلى غير الحالة المحبوبة التي كاونوا عليها { أو يصيبهم عذاب أليم* } في الآخرة، وهذا يدل على أن الأمر للوجوب حتى يصرف عنه صارف، لترتيب العقاب على الإخلال به، لأن التحذير من العقاب إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب.
ولما أقام سبحانه الأدلة على أنه نور السماوات والأرض بأنه لا قيام لشيء إلا به سبحانه، وختم بالتحذير لكل مخالف، أنتج ذلك أن له كل شيء فقال: { ألا إن لله } اي الذي له جميع المجد جميع { ما في السماوات } ولثبوت أنه سبحانه محيط العلم والقدرة، لم يقتض المقام التأكيد بإعادة الموصول فقال: { والأرض } أي من جوهر وعرض، وهما له أيضاً لأن الأرض في السماء، وكل سماء في التي فوقها حتى ينتهي ذلك إلى العرش الذي صرح في غير آية أنه صاحبه، وهو سماء أيضاً لعلوه عما دونه، فكل ما فيه له، وذلك أبلغ - لدلالته بطريق المجاز - مما لو صرح به، فدل ذلك - بعد الدلالة على وجوده - على وحدانيته، وكمال علمه وقدرته.
ولما كانت أحوالهم من جملة ما له، كان من المعلوم أنها لم تقم في أصلها ولا بقاء لها إلا بعلمه ولأنها بخلقه، فلذلك قال محققاً مؤكداً مرهباً: { قد يعلم ما أنتم } أيها الناس كلكم { عليه } أي الآن، والمراد بالمضارع هنا وجود الوصف من غير نظر إلى زمان، ولو عبر بالماضي لتوهم الاختصاص به، والكلام في إدخال "قد" عليه كما مضى آنفاً باعتبار أولي النفوذ في البصر، وأهل الكلال والكدر { ويوم } أي ويعلم ما هم عليه يوم { يرجعون } أي بقهر قاهر لهم على ذلك، لا يقدرون له على دفاع، ولا نوع امتناع { إليه } وكان الأصل: ما أنتم عليه، ولكنه أعرض عنهم تهويلاً للأمر، أو يكون ذلك خاصاً بالمتولين المعرضين إشارة إلى أنهم يناقشون الحساب، ويكون سر الالتفاف التنبيه على الإعراض عن المكذب بالقيامة، والإقبال على المصدق، صوناً لنفيس الكلام، عن الجفاة الأغبياء اللئام { فينبئهم } أي فيتسبب عن ذلك أنه يخبرهم تخبيراً عظيماً { بما عملوا } فليعدوا لكل شيء منه جواباً { والله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { بكل شيء } من ذلك وغيره { عليم* } فلذلك أنزل الآيات البينات، وكان نور الأرض والسماوات، فقد رد الختام على المبدأ، والتحم الآخر بالأول والاثنا - والله الهادي.