خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ
٥٩
فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ
٦٠
فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
٦١
قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ
٦٢
فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ
٦٣
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلآخَرِينَ
٦٤
وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ
٦٥
ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ
٦٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
٦٧
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
٦٨
-الشعراء

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان الخروج عن مثل هذا مما يستنكر، أشار إلى عظمة القدرة عليه بقوله: { كذلك } أي مثل ذلك الإخراج العجيب الذي أراده فرعون من قومه في السرعة والكمال الهيبة أخرجناهم نحن بأن يسرنا له ولهم ذلك، ووفرنا لهم الأسباب، لما اقتضته حكمتنا، أو مثل ذلك الخروج الذي قصصناه عليك أخرجناهم، أي كان الواقع من خروجهم مطابقاً لما عبرنا به عنه، أو الأمر الذي قصصناه كله كما قلنا وأولها أقعدها وأحسنها وأجودها { وأورثناها } أي تلك النعم السرية بمجرد خروجهم بالقوة وبإهلاكهم بالفعل { بني إسرائيل* } أي جعلناهم بحيث يرثونها لأنا لم نبق لهم مانعاً يمنعهم منها بعد أن كانوا مستبعدين تحت أيدي أربابها، وأما إرثهم لها بالفعل ففيه نظر لقوله في الدخان { قوماً آخرين }.
ولما وصف الإخراج، وصف أثره فقال مرتباً عليه بالفعل وعلى الإيراث بالقوة: { فأتبعوهم } أي جعلوا أنفسهم تابعة لهم { مشرقين* } أي داخلين في وقت شروق الشمس، أي طلوعها من صبيحة الليلة التي سار في نصفها بنو إسرائيل، ولولا تقدير العزيز العليم بخرق ذلك للعادة لم يكن على حكم العادة في أقل من عشرة أيام، فإنه أمر يعجز الملوك مثله، فيا له من حشر ما أسرعه! وجهاز ما أوسعه! واستمروا إلى أن لحقوهم عند بحر القلزم كما تقدم في الأعراف شرح ذلك عن التوراة، وتقدم سر تسييرهم في تلك الطريق { فلما تراءى الجمعان } أي صارا بحيث يرى كل منهما الآخر { قال أصحاب موسى } ضعفاً وعجزاً استصحاباً لما كانوا فيه عندهم من الذل، ولأنهم أقل منهم بكثير بحيث يقال: إن طليعة آل فرعون كانت على عدد بني إسرائيل، وذلك محق لتقليل فرعون لهم، وكأنه عبر عنهم بـ "أصحاب" دون "بني إسرائيل" لأنه كان قد آمن كثير من غيرهم: { إنا لمدركون* } أي لأنهم قد وصلوا ولا طريق لنا وقد صرنا بين سدين من حديد وماء، العدو وراءنا والماء أمامنا { قال } أي موسى عليه الصلاة والسلام وثوقاً بوعد الله، ناطقاً بمثل ما كلمه به ربه في أول القصة من قوله: { كلا } أي لا يدركونكم أصلاً؛ ثم علل ذلك تسكيناً لهم بقوله: { إن معي ربي } فكأنهم قالوا: وماذا عساه يفعل وقد وصلوا؟ قال: { سيهدين* } أي بوعد مؤكد عن قرب، إلى ما أفعل مما فيه خلاصكم، وتقدم في براءة سر تقديم المعية و خصوصها والتعبير باسم الرب { فأوحينا } أي فتسبب عن كلامه الدال على المراقبة أنا أوحينا؛ ونوه باسمه الكريم جزاء له على ثقته به سبحانه فقال: { إلى موسى } وفسر الوحي الذي فيه معنى القول بقوله: { أن اضرب بعصاك البحر } أي الذي أمامكم، وهو بحر القلزم الذي يتوصل أهل مصر منه إلى الطور وإلى مكة المشرفة وما والاها { فانفلق } أي فضربه فانشق بسبب ضربه لما ضربه امتثالاً لأمر الله وصار اثني عشر فرقاً على عدد أسباطهم { فكان كل فرق } أي جزء وقسم عظيم منه { كالطود } أي الجبل في إشرافه وطوله وصلابته بعدم السيلان { العظيم* } المتطاول في السماء الثابت لا يتزلزل، لأن الماء كان منبسطاً في أرض البحر، فلما انفرق وانكشفت فيه الطرق انضم بعضه إلى بعض فاستطال وارتفع في السماء.
ولما كان التقدير: فأدخلنا كل شعب منهم في طريق من تلك الطرق، عطف عليه: { وأزلفنا } أي قربنا بعظمتنا من قوم موسى عليه السلام؛ قال البغوي. قال أبو عبيدة: جمعنا، ومنه ليلة المزدلفة، أي ليلة الجمع.
ولما كان هذا الجمع في غاية العظمة وعلو الرتبة، أشار إلى ذلك بأداة البعد فقال: { ثم } أي هنالك، فإنها ظرف مكان للبعيد { الآخرين* } أي فرعون وجنوده { وأنجينا موسى ومن معه } وهم الذين اتبعوه من قومه وغيرهم { أجمعين* } أي لم نقدر على أحد منهم الهلاك.
ولما كان الإغراق بما به الإنجاء - مع كونه أمراً هائلاً - عجيباً وبعيداً عبر بأداة البعد فقال: { ثم أغرقنا } أي إغراقاً هو على حسب عظمتنا { الآخرين* } أي فرعون وقومه اجمعين، لم يفلت منهم أحد.
ولما قام عذر موسى عليه السلام فيما استدفعه أول القصة من كيد فرعون بما ثبت له من العظمة والمكنة في كثرة الجند وعظيم الطاعة منهم له في سرعة الاجتماع الدالة على مكنتهم في أنفسهم، وعظمته في قلوبهم، رغبة ورهبة، وظهر مجد الله في تحقيق ما وعد به سبحانه من الحراسة، وزاد ما أقر به العيون، وشرح به الصدرو، وكان ذلك أمراً يهز القوى سماعه، ويروع الأسماع تصوره وذكره، قال منبهاً على ذلك: { إن في ذلك } أي الأمر العظيم العالي الرتبة من قصة موسى وفرعون وما فيها من العظات { لآية } أي علامة عظيمة على ما قال الرسول موجبة للإيمان به من أن الصانع واحد فاعل بالاختبار، قادر على كل شيء، وأنه رسوله حقاً { وما كان أكثرهم } أي الذين شاهدوها والذي وعظوا بسماعها { مؤمنين } لله أي متصفين بالإيمان الثابت، أما القبط فما آمن منهم إلا السحرة ومؤمن آل فرعون وامرأة فرعون والمرأة التي دلتهم على عظام يوسف عليه السلام - على ما يقال، وأما بنو إسرائيل فكان كثير منهم مزلزلاً يتعنت كل قليل، ويقول ويفعل ما هو كفر، حتى تداركهم الله تعالى على يدي موسى عليه السلام ومن بعده، وأول ما كان من ذلك سؤالهم إثر مجاوزة البحر أن يجعل لهم إلهاً الأصنام التي مروا عليها، وأما غيرهم ممن تأخر عنهم فحالهم معروف، وأمرهم مشاهد مكشوف { وإن ربك } أي المحسن إليك بإعلاء أمرك، واستنقاذ الناس من ظلام الجهل على يدك { لهو العزيز } أي القادر على الانتقام من كل فاجر { الرحيم* } أي الفاعل فعل البليغ الرحمة، فهو يمهل ويدر النعم، ويحوط من النقم، ولا يمهل، بل يرسل رسلاً، وينزل معهم ما بين به ما يرضيه وما يسخطه، فلا يهلك إلا بعد الإعذار، فلا تستوحش ممن لم يؤمن، ولا يهمنك ذلك.