خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٥
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ
١٦
وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ
١٧
حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١٨
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ
١٩
-النمل

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما تم بهذه القصة الدليل على حكمته، توقع السامع الدلالة على علمه سبحانه، فقال مبتدئاً بحرف التوقع مشيراً إلى أنه لا نكير في فضل الآخر على الأول عاطفاً على ما تقديره: فلقد آتينا موسى وأخاه هارون عليهما السلام حكمة وهدى وعلماً ونصراً على من خالفهما وعزاً: { ولقد آتينا } أي بما لنا من العظمة { داود وسليمان } أي ابن داود، وهما من أتباع موسى عليهم السلام وبعده بأزمان متطاولة { علماً } أي جزاء من العلم عظيماً من منطق الطير والدواب وغير ذلك لم نؤته لأحد قبلهما.
ولما كان التقدير: فعملا بمقتضاه، عطف عليه قوله: { وقالا } شكراً عليه، دلالة على شرف العلم وتنبيهاً لأهله على التواضع: { الحمد } أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال { لله } أي الذي لا مثل له وله الجلال والجمال { الذي فضلنا } أي بما آتانا من ذلك { على كثير من عباده المؤمنين* } أي الذين صار الإيمان لهم خلقاً.
ولما كان كل منهما عليهما السلام قد أوتي ما ذكر، أشار إلى فضل سليمان عليه السلام بأنه جمع إلى ما آتاه ما كان منح به أباه فقال: { وورث سليمان داود } أي أباه عليهما السلام دون إخوته في النبوة والعلم والملك الذي كان قد خصه الله دون قومه بجمعه له إلى النبوة، فشكر الله على ما أنعم به عليه أولاً وثانياً { وقال } أي سليمان عليه السلام محدثاً بنعمة ربه ومنبهاً على ما شرفه الله به، ليكون أجدر في قبول الناس ما يدعوهم إليه من الخير: { يا أيها الناس }.
ولما كان من المعلوم أنه لا معلم له إلا الله، فإن لا يقدر على ذلك غيره، قال بانياً للمفعول: { علمنا } أي أنا وأبي بأيسر أمر وأسهله ممن لا يقدر على ما علمنا سواء ولو كان المقصود هو وحده لم يكن من التعاظم في شيء، بل هو كلام الواحد المطاع، تنبيهاً على تعظيم الله بما عظمه به مما يختص بالقدرة عليه أو بالأمر به كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إذا كان هناك حال يحوج إليه كما قال في الزكاة: إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل، وكما كان يكتب لبعض الجبابرة { منطق الطير } أي فهم ما يريد كل طائر إذا صوت، والمنطق ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد، لا بدع في أن الذي آتى كل نفس هداها وعلمها تميز منافعها ومضارها يؤتيها قوة تدرك بها تخاطباً بينها يتفاهم كل نوع منها به فيما يريد، ويكون ذلك قاصراً عن إدراك الإنسان لخصوصه بالجزئيات الناشئة عن الحسيات { وأوتينا } ممن له العظمة بأيسر أمر من أمره { من كل شيء } أي يكمل به ذلك من اسباب الملك والنبوة وغيرهما، وعبر بأداة الاستغراق تعظيماً للنعمة كما يقال لمن يكثر تردد الناس إليه: فلان يقصده كل أحد.
ولما كان هذا أمراً باهراً، دل عليه بقوله مؤكداً بأنواع التأكيد وشاكراً حاثاً لنفسه على مزيد الشكر وهازاً لها إليه: { إن هذا } أي الذي أوتيناه { لهو الفضل المبين* } أي البين في نفسه لكل من ينظره، الموضح لعلو قدر صاحبه ووحدانية مفيضة مؤتية.
ولما كان هذا مجرد خبر، أتبعه ما يصدقه فقال: { وحشر } أي جمع جمعاً حتماً بقهر وسطوة وإكراه بأيسر سعي { لسليمان جنوده }.
ولما دل ذلك على عظمه، زاد في الدلالة عليه بقوله: { من الجن } بدأ بهم لعسر جمعهم { والإنس } ثنى بهم لشرفهم ومشاركتهم لهم في ذلك من حيث تباعد أغراضهم وتناءي قصودهم.
ولما ذكر ما يعقل وبدأ به لشرفه، أتبعه ما لا يعقل فقال: { والطير } ولما كان الحشر معناه الجمع بكره، فكان لا يخلو عن انتشار، وكان التقدير: وسار بهم في بعض الغزوات، سبب عنه قوله تعظيماً للجيش وصاحبه: { فهم يوزعون* } أي يكفون بجيش أولهم على آخرهم بأدنى أمر وأسهله ليتلاحقوا، فيكون ذلك أجدر بالهيبة، وأعون على النصرة، وأقرب إلى السلامة؛ عن قتادة أنه كان على كل صنف من جنوده وزعة ترد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير، قال: والوازع: الحابس وهو النقيب. وأصل الوزع الكف والمنع.
ولما كان التقدير: فساروا، لأن الوزع لا يكون إلا عن سير، غياه بقوله: { حتى إذا أتوا } أي أشرفوا. ولما كان على بساطه فوق متن الريح بين السماء والأرض. عبر بأداة الاستعلاء فقال: { على واد النمل } وهو واد بالطائف - كما نقله البغوي عن كعب، وهو الذي تميل إليه النفس فإنه معروف إلى الآن عندهم بهذا الاسم، ويسمى أيضاً نخب وزن كتف، وقد رأيته لما قصدت تلك الديار لرؤية مشاهدها، والتطواف في معابدها ومعاهدها. والتبرك بآثار الهادي، في الانتهاء والمبادىء، ووقفت بمسجد فيه قرب سدرة تسمى الصادرة مشهور عندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى به، وهذه السدرة مذكورة في غزوة الطائف من السيرة الهشامية واقتصر في تسمية الوادي على نخب، وأنشدت فيه يوم وقوفي ببابه، وتضرعي في أعتابه:

مررت بوادي النمل يا صاح بكرة فصحت وأجريت الدموع على خدي
وتممت منه موقف الهاشمي الذي ملأ الأرض توحيداً يزيد على العد
وكم موقف أفرشته حر جبهتي وأبديت في أرجائه ذلة العبد

في قصيدة طويلة.
ولما كانوا في أمر يهول منظره، ويوهي القوى مخالطته ومخبره، فكان التقدير: فتبدت طلائعهم، وتراءت راياتهم ولوامعهم، وأحمالهم ووضائعهم، نظم به قوله: { قالت نملة } أي من النمل الذي بذلك الوادي: { يا أيها النمل } ولما حكى عنهم سبحانه ما هو من شأن العقلاء، عبر بضمائرهم فقال: { ادخلوا } أي قبل وصول ما أرى من الجيش ما { مساكنكم } ثم عللت أمرها معينة لصاحبه إذ كانت أماراته لا تخفى فقالت جواباً للأمر أو مبدلاً منه: { لا يحطمنكم } أي يكسرنكم ويهشمنكم أي لا تبرزوا فيحطمنكم. فهو نهي لهم عن البروز في صور نهيه وهو أبلغ من التصريح بنهيهم لأن من نهى كبيراً عن شيء كان لغيره أشد نهياً { سليمان وجنوده } أي فإنهم لكثرتهم إذا صاروا في الوادي استعلوا عليه فطبقوه فلم يدعوا منه موضع شبر خالياً { وهم } أي سليمان عليه السلام وجنوده { لا يشعرون* } أي بحطمهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير، وتعاطي مصالحة، مع صغر أجسامكم، وخفائكم على السائر في حال اضطرابكم ومقامكم، وقولها هذا يدل على علمها بأنهم لو شعروا بهم ما آذوهم لأنهم أتباع نبي فهم رحماء.
ولما كان هذا أمراً معجباً لما فيه من جزالة الألفاظ وجلالة المعاني، تسبب عنه قوله: { فتبسم } ولما دل ذلك على الضحك، وكان ذلك قد يكون للغضب، أكده وحقق معناه بقوله: { ضاحكاً من قولها } أي لما أوتيته من الفصاحة والبيان، وسروراً بما وصفته به من العدل في أنه وجنوده لا يؤذون أحداً وهم يعلمون { وقال } متذكراً ما أولاه ربه سبحانه بحسن تربيته من فهم كلامها إلى ما أنعم عليه من غير ذلك: { رب } أي أيها المحسن إليّ { أوزعني أن } أي اجعلني مطيقاً لأن { أشكر نعمتك } أي وازعاً له كافاً مرتبطاً حتى لا يغلبني. ولا يتفلت مني، ولا يشذ عني وقتاً ما.
ولما أفهم ذلك تعلق النعمة به. حققه بقوله: { التي أنعمت عليّ } وربما أفهم قوله: { وعلى والديّ } أن أمه كانت أيضاً تعرف منطق الطير. وتحقيق معنى هذه العبارة أن مادة "وزع" - بأيّ ترتيب كان - يدور على المعوز - لخرقة بالية يلف بها الصبي، ويلزمها التمييز، فإن الملفوف بها يتميز عن غيره، ومنه الأوزاع وهم الجماعات المتفرقة، ويلزمها أيضاً الإطاقة فإن أكثر الناس يجدها،ومنه العزون - لعصب من الناس، فإنهم يطيقون ما يريدون ويطيقهم من يريدهم، ومنه الوزع وهو كف ما يراد كفه، والولوع بما يزاد، ومنه الإيعاز - للتقدم بالأمر والنهي، والزوع للجذب، ويلزمها أيضاً الحاجة فإنه لا يرضى بها دون الجديد إلا محتاج، فمعنى الآية: اجعلني وازعاً - أي مطيقاً - أن أشكرها كما يطيق الوازع كف ما يريد كفه، ويمكن أن يكون مدار المادة الحاجة لأن الأوزاع - وهم الجماعات - يحتاجون إلى الاجتماع جملة، والكاف محتاج إلى امتثال ما يكفه لأمره، والجاذب محتاج إلى الزوع أي الجذب، والمولع بالشيء فقير إليه، والموعز محتاج إلى قبول وصيته، فالمعنى: اجعلني وازعاً أي فقيراً إلى الشكر، أي ملازماً له مولعاً به، لأن كل فقير إلى شيء مجتهد في تحصيله، ويلزم على هذا التخريج احتقار العمل، فيكون سبباً للأمن من الإعجاب، وفي الآية تنبيه على بر الوالدين في سؤال القيام عنهم بما لم يبلغاه من الشكر - والله الموفق. والشكر في اللغة فعل ينبىء عن تعظيم المنعم لكونه منعماً كالثناء على المنعم بما يدل على أن الشاكر قد عرف نعمته واعترف له بها وحسن موقعها عنده، وخضع قلبه له لذلك، وحاصله أنه اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى معرفة المنعم فإنه إذا عرفها تسبب في التعرف إليه، فسلك طريق التعرف وجد في الطلب، ومن جدَّ وجد، ويروى عن داود عليه الصلاة والسلام أنه قال: يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة آخرى منك أحتاج عليها إلى شكر آخر؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا داود! إذا علمت أن ما بك من نعمة فمني فقد شكرتني.
والشكر ثلاثة أشياء: الأول معرفة النعمة بمعنى إحضارها في الخاطر بحيث يتميز عندك أنها نعمة، فرب جاهل يحسن إليه وينعم عليه وهو لا يدري، فلا جرم أنه لا يصح منه الشكر. والثاني: قبول النعمة بتلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة، فإن ذلك شاهد بقبولها حقيقة، والثالث: الثناء بها بأن تصف المنعم بالجود والكرم ونحوه مما يدل على حسن تلقيك لها واعترافك بنزول مقامك في الرتبة عن مقامه، فإن اليد العليا خير من اليد السفلى، وهو على ثلاث درجات: الأولى الشكر على المحاب أي الأشياء المحبوبة، وهذا شكر تشارك فيه المثبتون المسلمون واليهود والنصارى والمجوس، فإن الكل يعتقدون أن الإحسان الواصل من الرحمن واجب معرفته على الإنسان، ومن سعة بر البارىء سبحانه وتعالى أن عده شكراً مع كونه واجباً على الشاكر. ووعد عليه الزيادة، وأوجب فيه المثوبة إحساناً ولطفاً. الثانية: الشكر في المكاره، وهو إما من رجل لا يميز بين الحالات، بل يستوي عنده المكروه والمحبوب، فإذا نزل به المكروه شكر الله عليه بمعنى أنه أظهر الرضا بنزوله به، وهذا مقام الرضا، وإما من رجل يميز بين الأحوال فهو لا يحب المكروه ولا يرضى بنزوله، فإن نزل به مكروه فشكره عليه إنما هو كظم الغيظ وستر الشكوى وإن كان باطنه شاكياً، والكظم إنما هو لرعاية الأدب بالسلوك في مسلك العلم، فإنه يأمر العبد بالشكر في السراء والضراء والثالثة: أن لا يشهد العبد إلا المنعم باشتغاله بالاستغراق في مشاهدته عن مشاهدة النعمة، وهذا الشهودعلى ثلاثة أقسام: أحدها أن يستغرق فيها عبودة، فيكون مشاهداً له مشاهدة العبد للسيد بأدب العبيد إذا حضروا بين يدي سيدهم، فإنهم ينسون ما هم فيه من الجاه والقرب الذي ما حصل لغيرهم، باستغراقهم في الأدب، وملاحظتهم لسيدهم خوفاً من أن يسير إليهم في أمر فيجدهم غافلين، وهذا أمر معروف عند من صحب الملوك. فصاحب هذا الحال إذا أنعم عليه سيده في هذه الحالة، مع قيامه في حقيقة العبودة، استعظم الإحسان، لأن العبودة توجب عليه أن يستضغر نفسه. ثانيها أن يشهد سيده شهود محبة غالبة، فهو يسبب هذا الاستغراق فيه، يستحلي منه الشدة، وقد قال بعض عشاق حسن الصورة لا صورة الحسن فأحسن:

من لم يذق ظلم الحبيب كظلمه حلواً فقد جهل المحبة وادعى

ثالثها: أن يشهد شهود تفريد يرفع الثنويه ويفني الرسم ويذهب الغيرية، فإذا وردت عليه النعمة أو الشدة كان مستغرقاً في الفناء فلم يحس بشيء منهما.
ولما علم من هذا كله أن الشاكر هو المستغرق في الثناء على المنعم بما يجب عليه من العمل من فناء أو غيره بحسب ما يقدر عليه، وكان ذلك عمل مما يجوز أن يكون زين لذلك العبد كونه حسناً وهو ليس كذلك، قال صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى هذا المعنى: { وأن أعمل صالحاً } أي في نفس الأمر. ولما كان العمل الصالح قد لا يرضي المنعم لنقص في العمل كما قيل في معنى ذلك:

إذا كان المحب قليل حظ فما حسناته إلا ذنوب

قال: { ترضاه }.
ولما كان العمل الصالح المرضي قد لا يعلى إلى درجة المرضي عنهم، لكون العامل منظوراً إليه بعين السخط، لكونه ممن سبق عليه الكتاب بالشقاء، لأن الملك المنعم تام الملك عظيم الملك فهو بحيث لا يسأل عما يفعل، قال معرضاً عن عمله معترفاً بعجزه، معلماً بأن المنعم غني عن العمل وعن غيره، لا تضره معصية ولا ينفعه طاعة: { وأدخلني برحمتك } أي لا بعملي { في عبادك الصالحين* } أي لما أردتهم له من تمام النعمة بالقرب والنظر إليهم بعين العفو والرحمة والرضا.