نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
{ طس } يشير إلى طهارة
الطور وذي طوى منه وطيب طيبه، وسعد بيت المقدس الذي بناه سليمان عليه الصلاة
والسلام التي انتشر منها الناهي عن الظلم، وإلى أنه لما طهر سبحانه بني إسرائيل،
وطيبهم بالابتلاء فصبروا، خلصهم من فرعون وجنوده بمسموع موسى عليه الصلاة
والسلام للوحي المخالف لشعر الشعراء، وإفك الآثمين وزلته من الطور، ولم يذكر تمام
أمرهم بإغراق فرعون، لأن مقصودها إظهار العلم والحكمة دون البطش والنقمة، فلم
يقتض الحال ذكر الميم.
ولما ختم التي قبلها بتحقيق أمر القرآن، وأنه من عند الله، ونفي الشبه عنه
وتزييف ما كانوا يتكلفونه من تفريق القول فيه بالنسبة إلى السحر والأضغاث والافتراء
والشعر، الناشىء كل ذلك عن أحوال الشياطين، وابتدأ هذه بالإشارة إلى أنه من الكلام
القديم المسموع المطهر عن وصمة تلحقه من شيء من ذلك، تلاه بوصفه بأنه كما أنه
منظوم مجموع لفظاً ومعنى لا فصم فيه ولا خلل، ولا وصم ولا زلل، فهو جامع
لأصول الدين ناشر لفروعه، بما أشار إليه الكون من المسلمين فقال: { تلك } أي
الآيات العالية المقام البعيدة المرام، البديعة النظام { آيات القرآن } أي الكامل في قرآنيته
الجامع للأصول، الناشر للفروع، الذي لا خلل فيه ولا فصم، ولا صدع لولا وصم
{ و } آيات { كتاب } أي وأيّ كتاب هو مع كونه جامعاً لجميع ما يصلح المعاش
والمعاد، قاطع في أحكامه، غالب في أحكامه، في كل من نقضه وإبرامه، وعطفه دون
إتباعه للدلالة على أنه كامل في كل من قرآنيته وكتابيته { مبين* } أي بين في نفسه أنه
من عند الله كاشف لكل مشكل، موضح لكل ملبس مما كان ومما هو كائن من الأحكام
والدلائل في الأصول والفروع، والنكت والإشارات والمعارف، فيا له من جامع فارق
واصل فاصل.
ولما كانت العناية في هذه السورة بالنشر - الذي هو من لوازم الجمع في مادة
"قرا" كما مضى بيانه أول الحجر - أكثر، قدم القرآن، يدل على ذلك انتشاراً أمر موسى
عليه الصلاة والسلام في أكثر قصته بتفريقه من أمه، وخروجه من وطنه إلى مدين،
ورجوعه مما صار إليه إلى ما كان فيه، والتماسه لأهله الهدى والصلى واضطراب
العصى وبث الخوف منها، وآية اليد وجميع الآيات التسع، واختيار التعبير بالقوم الذي
أصل معناه القيام، وإبصار الآيات، وانتشار الهدهد، وإخراج الخبأ الذي منه تعليم منطق
الطير، وتكليم الدابة للناس، وانتشار المرأة وقومها وعرشها بعد تردد الرسل بينها وبين
سليمان عليه الصلاة والسلام، وكشف الساق، وافتراق ثمود إلى فريقين، مع الاختصام
المشتت، وانتثام قوم لوط عليه السلام إلى ما لا يحل، وتفريق الرياح نشراً، وتقسيم
الرزق بين السماء والأرض، ومرور الجبال، ونشر الريح لنفخ الصور الناشىء عنه فزع
الخلائق المبعثر للقبور، إلى غير ذلك مما إذا تدبرت السورة انفتح لك بابه، وانكشف
عنه حجابه، وهذا بخلاف ما في الحجر على ما مضى.
وقال الإمام ابو جعفر بن الزبير: لما أوضح في سورة الشعراء عظيم رحمته
بالكتاب، وبيان ما تضمنه مما فضح به الأعداء، ورحم به الأولياء، وبراءته من أن
تتسور الشياطين عليه، وباهر آياته الداعية من اهتدى بها إليه، فتميز بعظيم آياته كونه
فرقاناً قاطعاً، ونوراً ساطعاً، أتبع سبحانه ذلك مدحة وثناء، وذكر من شملته رحمته به
تخصيصاً واعتناء، فقال { تلك آيات القرآن } أي الحاصل عنها مجموع تلك الأنوار آيات
القرآن { وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين } ثم وصفهم ليحصل للتابع قسطه من بركة
التبع، وليتقوى رجاؤه في النجاة مما أشار إليه { وسيعلم الذين ظلموا } من عظيم ذلك
المطلع؛ ثم أتبع ذلك بالتنبيه على صفة الآهلين لما تقدم من التقول والافتراء تنزيهاً
لعباده المتقين، وأوليائه المخلصين، عن دنس الشكوك والامتراء فقال: { إن الذين لا
يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون } أي يتحيرون فلا يفرقون بين النور
والإظلام، لارتباك الخواطر والأفهام؛ ثم أتبع ذلك بتسليته عليه الصلاة والسلام
بالقصص الواقعة بعد تنشيطاً له وتعريفاً بعلي منصبه، وإطلاعاً له على عظيم صنعه تعالى
فيمن تقدم، ثم ختمت السورة بذكر أهل القيامة وبعض ما بين يديها، والإشارة إلى
الجزاء ونجاة المؤمنين، وتهديد من تنكب عن سبيله عليه الصلاة والسلام - انتهى.
ولما عظم سبحانه آيات الكتاب بما فيها من الجمع من النشر مع الإبانة، ذكر حاله
فقال: { هدى } ولما كان الشيء قد يهدي إلى مقصود يكدر حال قاصده. قال نافياً
لذلك، وعطف عليه بالواو دلالة على الكمال في كل من الوصفين: { وبشرى } أي
عظيمة.
فلما تشوفت النفوس، وارتاحت القلوب، فطم من ليس بأهل عن عظيم هذه
الثمرة فقال: { للمؤمنين } أي الذين صار ذلك لهم وصفاً لازماً بما كان لهم فيل دعاء
الداعي من طهارة الأخلاق، وطيب الأعراق، وفي التصريح بهذا الحال تلويح بأنه فتنه
وإنذار للكافرين { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً فأما الذين في قلوبهم زيغ } - الآية،
{ { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } [فصلت: 44]، { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر
وهو عليهم عمي } - إلى غير ذلك من الآيات.
ولما كان وصف الإيمان خفياً، وصفهم بما يصدقه من الأمور الظاهرة فقال:
{ الذين يقيمون الصلاة } أي بجميع حدودها الظاهرة والباطنة من المواقيت والطهارات
والشروط والأركان والخشوع والخضوع والمراقبة والإحسان إصلاحاً لما بينهم وبين
الخالق.
ولما كان المقصود الأعظم من الزكاة إنما هو التوسعة على الفقراء قال: { ويؤتون
الزكاة } أي إحساناً فيما بينهم وبين الخلائق.
ولما كان الإيمان بالبعث هو الجامع لذلك ولغيره من سائر الطاعات، ذكره معظماً
لتأكيده، فقال معلماً بجعله حالاً إلا أنه شرط لما قبله: { وهم } أي والحال أنهم.
ولما كان الإيمان بالبعث هو السبب الأعظم للسعادة وهو محط للحكمة، عبر فيه
بما يقتضي الاختصاص، لا للاختصاص بل للدلالة على غاية الرسوخ في الإيمان به،
فقال: { بالآخرة هم } أي المختصون بأنهم { يوقنون* } أي يوجدون الإيقان حق
الإيجاد ويجددونه في كل حين بما يوجد منهم من الإقدام على الطاعة، والإحجام عن
المعصية.
ولما أفهم التخصيص أن ثم من يكذب بها وكان أمرها مركوزاً في الطباع، لما
عليها من الأدلة الباهرة في العقل والسماع، تشوفت نفس السامع على سبيل التعجب إلى
حالهم، فقال مجيباً له مؤكداً تعجيباً ممن ينكر ذلك: { إن الذين لا يؤمنون } أي
يوجدون الإيمان ويجددونه { بالآخرة زينا } أي بعظمتنا التي لا يمكن دفاعها { لهم
أعمالهم } أي القبيحة، حتى أعرضوا عن الخوف من عاقبتها مع ظهور قباحتها،
والإسناد إليه سبحانه حقيقي عند أهل السنة لأنه الموجد الحقيقي، وإلى الشيطان مجاز
سببي { فهم } أي فتسبب عن ذلك أنهم { يعمهون* } أي يخبطون خبط من لا بصيرة
له اصلاً ويترددون في أودية الضلال، ويتمادون في ذلك، فهم كل لحظة في خبط
جديد، بعمل غير سديد ولا سعيد، فإن العمه التحير والتردد كما هو حال الضال.