نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
ولما انتفى نفعهم بعلمهم، صح نفيه، فكانوا وإياها على حد سواء، ليس لفريق منهما شيء مما نوى، فيا لها من صفقة خاسرة، وتجارة كاسدة بائرة. ولما كان ضرب المثل للشيء لا يصح إلا من العالم بذلك الشيء، وكان النصير على شيء لا يمكن أن يتوجه إلى معارضته إلا أن يعلمه ويعلم مقدار قدرته، وعدة جنوده، وصل بذلك أن هذا شأنه سبحانه وأن شركاءهم في غاية البعد عن ذلك، فكيف يعلقون بنصرهم آمالهم، وزاد ذلك ذاك حسناً تعقيبه لنفي العلم عنهم، فقال إشارة إلى جهلهم في إنكارهم أن يقدر أحد على إهلاك آلهتهم التي هي أو هي الأشياء: { إن الله } أي الذي له صفات الكمال { يعلم } بما له من تلك الصفات { ما } أي الذي { يدعون } أي الذين ضرب لهم المثل، أو أنتم - في قراءة الفوقانية التفاتاً إلى أسلوب الخطاب إيذاناً بالغضب { من دونه } إشارة إلى سفول رتبتهم، وأكد العموم بقوله: { من شيء } أي سواء كان نجماً أو صنماً أو ملكاً أو جنيناً أو غيره، وهم لا يعلمونه ولا يعلمون شيئاً مما يتوصلون إليه، فكيف يشفعون عنده أو ينصرون منه، وإليه الإشارة بقوله: { وهو العزيز } أي عن أن يعلمه شركاؤهم أو يحيط به أحداً علماً، أو يمتنع عليه شيء يريده؛ وجوزوا أن تكون ما نفية، أي شيء يعتد به. ولما كان ذلك ربما أفهم أنه لا يعلم أصلاً قال: { الحكيم* } أي البالغ العلم، الواضع كل شيء يريده في أكمل مواضعه، فأبطن نفسه بكبريائه وجلاله حتى لا باطن سواه، وأظهرها بأفعاله وما كشف من جماله حتى لا ظاهر في الحقيقة غيره، وهو يغلب من شاء بعزته، ويمهله إن شاء بحكمته، فلا يغتر أحد بإمهاله فيظن أنه لإهماله.
ولما فرغ من مثلهم ومما تتوقف صحته عليه، كان كأنه قيل على وجه التعظيم لهذا المثل: هذا مثلهم فعطف عليه قوله إشارة إلى أمثال القرآن كلها تعظيماً لها وتنبيهاً على جليل قدرها وعليّ شأنها: { وتلك الأمثال } أي العالية عن أن تنال بنوع احتيال؛ ثم استأنف قوله: { نضربها } بما لنا من العظمة، بياناً { للناس } تصويراً للمعاني المعقولات بصور المحسوسات، لعلها تقرب من عقولهم فينتفعوا بها، وهكذا حال التشبيهات كلها في طرق للأفهام إلى المعاني المحتجبة في الأستار، تبرزها وتكشف عنها وتصورها.
ولما كانوا يتهكمون بما رأوه من الأمثال مذكوراً به الذباب والبعوض ونحوهما قال مجملاً لهم: { وما يعقلها } أي حق عقلها فينتفع بها { إلا العالمون* } أي الذين هيئوا للعلم وجعل طبعاً بما بث في قلوبهم من أنواره، وأشرق في صدورهم من أسراره، فهم يضعون الأشياء مواضعها؛ روى الحارث بن أبي أسامة عن جابر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العالم الذي عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه" . قال البغوي: والمثل كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول.
ولما قدم أنه لا معجز له سبحانه، ولا ناصر لمن أخذ، وصحح ذلك بالمشاهدة في القرون البائدة، وقربه إلى الأذهان بالمثل المستولي على غاية البيان، وختم ذلك أنه حجب فهمه عن أكثر خلقه، دل على ذلك كله بقوله مظهراً لقوته وسائر صفات كماله، بعد ما حقق أن أولياءهم في أنزل مراتب الضعف { خلق الله } أي الذي لا يداني في عظمة ولا جلال، ولا جمال ولا كمال { السماوات والأرض بالحق } أي الأمر الذي يطابقه الواقع، أو بسبب إظهار أن الواقع يطابق إخباره، أو بسبب إثبات الحق وإبطال الباطل، فلا تجد أحداً يفهم عنه حق الفهم مع تساويهم في الإنسانية إلا وهو من أهل السكينة، والإخبات والطمأنينة، ولا يعجزه أحد يريد أخذه، ولا يفلح أحد عصى أنبياءه، فبانت عزته، وظهرت حكمته، فطابق الواقع ما أخبر به، وأيضاً فالأمثال إنما تكون بالمحسوسات، وهي إما سماوية أو أرضية، فإيجاد هذه الموجودات إنما هو لأجل العلم بالله تعالى.
ولما كان المراد بالعالم قد يخفي، بينه بقوله مشيراً بالتأكيد إلى أن حالهم في عدم الانتفاع بالنظر فيها حال من ينكر أن يكون فيها دلالة: { إن في ذلك } أي الأمر العظيم من تأملهم لمطابقة الواقع لإخباره سبحانه، فلا يخبر بشيء إلا كان الواقع منهما أو مما فيهما يطابقه سواء بسواء { لآية } أي دلالة مسعدة { للمؤمنين* } أي الذين هم العالمون في الحقيقة، حداهم علمهم بما في الكونين من المنافع المترتبة على النظام المعروف مع ما في خلقهما أنفسهما مع كبر الأجرام وبديع الإحكام، على الإيمان بجميع ما أخبر به حتى لم يكن عندهم نوع شك، وصار لهم صفة لا تنفك.
ولما أفاد هذا الخبر كله القرآن الذي لا حق أحقّ منه، ودل على أن فهم أمثاله يحتاج إلى مزيد علم، وأن مفتاح العلم به سبحانه رسوخ الإيمان، خاطب رأس أهل الإيمان لأنه أعظم الفاهمين له ليقتدي به الأتباع فقال: { اتل ما } أي تابع قراءته؛ ودل على شرفه لا ختصاصه به بقوله: { أوحي إليك } إذ الوحي الإلقاء سراً { من الكتاب } أي الجامع لكل خير، فإنه المفيد للإيمان، مع أنه أحق الحق الذي خلقت السماوات والأرض لأجله، والإكثار في تلاوته يزيد بصيرة في أمره، ويفتح كنوز الدقائق من علمه، وهو أكرم من أن ينيل قارئه فائده وأجلّ من أن يعطي قياد فوائده ويرفع الحجاب عن جواهره وفرائده في أول مرة، بل كلما ردده القارىء بالتدبر حباه بكنز من أسراره، ومهما زاد زاده من لوامع أنواره، إلى أن يقطع بأن عجائبه لا تعد، وغرائبه لا تحد.
ولما أرشد إلى مفتاح العلم، دل قانون العمل الذي لايصح إلا بالقرآن، وهو ما يجمع الهم، فيحضر القلب، فينشرح الصدر، فينبعث الفكر في رياض علومه، فقال: { وأقم الصلاة } أي التي هي أحق العبادات، ثم علل ذلك بقوله دالاً بالتأكيد على فخامة أمرها، وأنه مما يخفى على غالب الناس: { إن الصلاة تنهى } أي توجد النهي وتجدده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها { عن الفحشاء } أي الخصال ألتي بلغ قبحها { والمنكر } أي الذي فيه نوع قبح وإن دق، وأقل ما فيها من النهي النهي عن تركها الذي هو كفر، ومن انتهى عن ذلك انشرح صدره، واتسع فكره، فعلم من أسرار القرآن ما لا يعلمه غير { واتقوا الله ويعلمكم الله } [البقرة: 282].
ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله، أتبع ذلك الحث على روح الصلاة والمقصد الأعظم منها، وهو المراقبة لمن يصلي له حتى كأنه يراه ليكون بذلك في أعظم الذكر بقوله: { ولذكر الله } أي ولأن ذكر المستحق لكل صفة كمال { أكبر } أي من كل شيء، فمن استحضر ذلك بقلبه هان عنده كل شيء سواه " إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه" أو يكون المراد أن من واظب على الصلاة ذكر الله، ومن ذكره أوشك أن يرق قلبه، ومن رق قلبه استنار لبه، فأوشك أن ينهاه هذا الذكر المثمر لهذه الثمرة عن المعصية، فكان ذكر الذاكر له سبحانه أكبر نهياً له عن المنكر من نهي الصلاة له، وكان ذكره له سبحانه كبيراً، كما قال تعالى { فاذكروني أذكركم } وإذا كان هذا شأن ذكر العبد لمولاه، فما ظنك بذكر مولاه له كلما أقبل عليه بصلاة فإنه جدير بأن يرفعه إلى حد لا يوصف، ويلبسه من أنواره ملابس لا تحصر.
ولما كان ذلك يحتاج إلى علاج لمعوج الطباع ومنحرف المزاج، وتمرن على شاق الكلف، ورياضة لجماح النفوس، وكان صلى الله عليه وسلم قد نزه عن ذلك كله بما جبل عليه من أصل الفطرة، ثم بما غسل به قلبه من ماء الحكمة، وغير ذلك من جليل النعمة، عدل إلى خطاب الأتباع يحثهم على المجاهدة فقال: { والله } أي المحيط علماً وقدرة { يعلم } أي في كل وقت { ما تصنعون* } من الخير والشر، معبراً بلفظ الصنعة الدال على ملازمة العمل تنبيهاً على أن إقامة ما ذكر تحتاج إلى تمرن عليه وتدرب، حتى يصير طبعاً صحيحاً، ومقصوداً صريحاً.
ولما انتهى الكلام إلى روح الدين وسر اليقين مما لا يعلمه حق علمه إلا العلماء بالكتب السماوية والأخبار الإلهية، وكان العالم يقدر على إيراد الشكوك وترويج الشبه، فربما أضل بالشبهة الواحدة النيام من الناس، بما له عندهم من القبول، وبما للنفوس من النزوع إلى الأباطيل، وبما للشيطان في ذلك من التزيين، وكان الجدال يورث الإحن، ويفتح أبواب المحن، فيحمل على الضلال، قال تعالى عاطفاً على { اتل } مخاطباً لمن ختم الآية بخطابهم تنزيهاً لمقامه صلى الله عليه وسلم عن المواجهة بمثل ذلك تنبيهاً على أنه لا يصوب همته الشريفة إلى مثل ذلك، لأنه ليس في طبعه المجادلة، والمماراة والمغالبة: { ولا تجادلوا أهل الكتاب } أي اليهود والنصارى ظناً منكم أن الجدال ينفع الدين، أو يزيد في اليقين، أو يرد أحداً عن ضلال مبين { إلا بالتي } أي بالمجادلة التي { هي أحسن } أي بتلاوة الوحي الذي أمرنا راس العابدين بإدامة تلاوته فقط، وهذا كما تقدم عند قوله تعالى في سبحان { { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } [الإسراء: 53].
ولما كان كل من جادل منهم في القرآن ظالماً، كان من الواضح أن المراد بمن استثنى في قوله تعالى: { إلا الذين ظلموا منهم } أي تجاوزوا في الظلم بنفي صحة القرآن وإنكار إعجازه مثلاً وأن يكون على أساليب الكتب المتقدمة، أو مصدقاً لشيء منها، أو بقولهم { ما أنزل الله على بشر من شيء } [الأنعام: 91] ونحو هذا من افترائهم، فإن هؤلاء يباح جدالهم ولو أدى إلى جلادهم بالسيف، فإن الدين يعلو ولا يعلى عليه.
ولما نهى عن موجب الخلاف، أمر بالاستعطاف، فقال: { وقولوا آمنا } أي أوقعنا الإيمان { بالذي أنزل إلينا } أي من هذا الكتاب المعجز { وأنزل إليكم } من كتبكم، يعني في أن أصله حق وإن كان قد نسخ منه ما نسخ، وما حدثوكم به من شيء ليس عندكم ما يصدقه ولا ما يكذبه فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإن هذا أدعى إلى الإنصاف، وأنفى للخلاف.
ولما لم يكن هذا جامعاً للفريقين، أتبعه بما يجمعهما فقال: { وإلهنا وإلهكم } ولما كان من المعلوم قطعاً أن المراد به الله، لأن المسلمين لا يعبدون غيره، وكان جميع الفرق مقرين بالإلهية ولو بنوع إقرار لم تدع حاجة إلى أن يقول { إله } كما في بقية الآيات فقال: { واحد } إلى لا إله لنا غيره وإن ادعى بعضكم عزيراً والمسيح { ونحن له } خاصة { مسلمون* } أي خاضعون منقادون أتم انقياد فيما يأمرنا به بعد الأصول من الفروع سواء كانت موافقة لفروعكم كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس، أو ناسخة كالتوجه إلى الكعبة، ولا نتخذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله لنأخذ ما يشرعونه لنا مخالفاً لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فنكون حينئذ قد خضعنا لهم وتكبرنا عليه فأوقعنا الإسلام في غير موضعه ظلماً.