خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ
٦٨
وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٦٩
-العنكبوت

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان الظلم وضع الشيء في غير محله، وكان وضع الشيء في موضع لا يمكن أن يقبله أظلم الظلم، كان فعلهم هذا الذي هو إنزال ما لا يعلم شيئاً ولا يقدر على شيء في منزلة من يعلم كل شيء ويقدر على كل مقدور أظلم الظلم، فكان التقدير: فمن أظلم منهم في ذلك، عطف عليه قوله: { ومن أظلم } أي أشد وضعاً للأشياء في غير مواضعها، لأنه لانور له بل هو في ظلام الجهل يخبط { ممن افترى } أي تعمد { على الله كذباً } أي أيّ كذب كان من الشرك وغيره كما كانوا يقولون إذا فعلوا فاحشة: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها { أو كذب بالحق } من هذا القرآن المعجز المبين، على لسان هذا الرسول الأمين الذي ما أخبر خبراً إلا طابقه الواقع { لما } أي حين { جاءه } من غير إمهال إلى أن ينظر ويتأمل فيما جاءه من الأمر الشديد الخطر.
ولما كان التقدير: لا أحد أظلم منه، بل هو أظلم الظالمين، فهو كافر ومأواه جهنم، وكان من المعلوم أنهم يقولون عناداً: ليس الأمر كذلك، قال إنكاراً عليهم، ولأن فعلهم فعل المنكر، وتقريراً لهم لأن همزة الإنكار إذا دخلت على النفي كانت للتقرير، عدّاً به بمنزلة ما لا نزاع فيه أصلاً: { أليس في جنهم مثوى } أي منزل وموضع إقامة وحبس له وقد ارتكب هذا الكفر العظيم - هكذا كان الأصل، ولكنه لقصد التعميم وتعليق الفعل بالوصف قال: { للكافرين* } أي الذين يغطون أنوار الحق الواضح، أو ليس هو من الكافرين؟ أي إن كلاًّ من المقدمتين صحيح لا إنكار فيه، ولا ينتظم إنكارهم إلا بإفساد إحديهما، أما كفره للمنعم بعد إنجائه من الهلاك حيث عبد غيره فلا يسع عاقلاً إنكاره، وأما كون جهنم تسعة بعد إخبار القادر به فلا يسع مقراً بالقدرة إنكاره، فالمقدمتان مما لا مطعن فيه عندهم، فأنتجتا أن مثواه جهنم، وصار القياس هكذا: عابد غير من أنجاه كافر، وكل كافر مثواه جهنم، فعابد غير من أنجاه مثواه جهنم.
ولما كان هذا كله في الذين فتنوا فلم يجاهدوا أنفسهم، كان المعنى: فالذين فتناهم فوجدوا كاذبين ضلوا فصاروا لا يعقلون ولا يعلمون، لكونهم لم يكونوا من المجاهدين، فعطف عليه قوله: { والذين جاهدوا } أي أوقعوا الجهاد بغاية جهدهم على ما دل عليه بالمفاعلة { فينا } أي بسبب حقنا ومراقبتنا خاصة بلزوم الطاعات من جهاد الكفار وغيرهم من كل ما ينبغي الجهاد فيه بالقول والفعل في الشدة والرخاء، ومخالفة الهوى عند هجوم الفتن، وشدائد المحن، مستحضرين لعظمتنا.
ولما كان الكفار ينكرون فلاحهم وكان المفلح والظافر في كل شيء هو المهتدي، قال معبراً بالسبب عن المسبب: { لنهدينهم } بما نجعل لهم من النور الذي لا يضل من صحبه، هداية يليق بعظمتنا { سبلنا } أي لا سبل غيرها، علماً وعملاً، ونكون معهم بلطفنا ومعونتنا، لأنهم أحسنوا المجاهدة فهنيئاً لمن قاتل في سبيل الله ولو فواق ناقة لهذه الآية وقوله تعالى
{ { والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم } [محمد: 4]، ولهذا كان سفيان بن عيينة يقول: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الغزو.
ولما كان المحسن كلما توفر حظه في مقام الإحسان نقص حظه من الدنيا، فظن الأغبياء أنه ليس لله به عناية، عظم التأكيد في قوله، لافتاً الكلام عن أسلوب الجلال إلى أجلّ عنه بما زاد من الجمال { وإن الله } أي بعظمته وجلاله وكبريائه وجميع كماله لمعهم - هكذا كان الأصل، ولكنه أراد الإعلام بإحسابهم وتعليق الحكم بالوصف والتعميم فأظهر قائلاً: { لمع المحسنين* } أي كلهم بالنصر والمعونة في دنياهم، والثواب والمغفرة في عقباهم، بسبب جهادهم لأنه شكر يقتضي الزيادة، ومن كان معه سبحانه فاز بكل مطلوب، وإن رأى الجاهل خلاف ذلك، فإنه يجعل عزهم من وراء ذل ويستر غناهم بساتر فقر، حماية لهم مما يجر إليه دائم العز من الكبر، ويحمل عليه عظيم الغنى من الطغيان، وما أحسن ما نقل الأستاذ أبو القاسم القشيري في الرسالة عن الحارث المحاسبي أنه قال: من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة، والآية من الاحتباك: أثبت أولاً الجهاد دليلاً على حذفه ثانياً، وثانياً أنه مع المحسنين دليلاً على حذف المعية والإحسان أولاً، فقد عانق أول السورة هذا الآخر، وكان إليه أعظم ناظر، فنسأل الله العافية من الفتن، والمجاهدة إن كان لا بد من المحن، وإليه المآب.