خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
٥٩
ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ
٦٠
فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ
٦١
إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٦٢
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِٱلْمُفْسِدِينَ
٦٣
-آل عمران

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ثم أكد ظلمهم وصور حكمته بمثل هذا الفرقان في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام الكاشف لما في ذلك مما ألبس عليهم فقال: { إن مثل عيسى } أي في كونه من أنثى فقط { عند الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في إخراجه من غير سبب حكمي عادي { كمثل آدم } في أن كلاًّ منهما أبدع من غير أب، بل أمر آدم أعجب فإنه أوجده من غير أب ولا أم، ولذلك فسر مثله بأنه { خلقه } أي قدره وصوره جسداً من غير جنس البشر، بل { من تراب } فعلمنا أن تفسير مثل عيسى كونه خلقه من جنس البشر من أم فقط بغير أب، فمثل عيسى أقل غرابة من هذه الجهة وإن كان أغرب من حيث إنهم لم يعهدوا مثله، فلذلك كان مثل آدم مثلاً له موضحاً لأنه مع كونه أغرب اشهر (وعبر بالتراب دون الماء والطين والحمأ وغيره كما في غير هذا الموطن، لأن التراب أغلب أجزائه ولأن المقام لإظهار العجب، وإبداع ما أسكنه أنواع الأنوار بالهداية والعلوم الباهرة من التراب الذي هو أكثف الأشياء أغرب كما أن تغليب ظلام الضلال على الشياطين من كونهم من عنصر نير أعجب).
ولما شبه المثل بالمثل علمنا أن مثل عيسى كل ولد نشاهده تولد من أنثى، ومثل آدم كل حيوان نشاهده تولد من تراب، وما شاهده بنو إسرائيل من خلق عيسى عليه الصلاة والسلام الطير من الطين فهذا المثل الذي هو كل ما تولد من أنثى مثل ذلك المثل الذي هو كل ما تولد من تراب في أن كلاًّ منهما لم يكن إلا بتكوين الله سبحانه وتعالى، وإلا لكان كل جماع موجباً للولد وكل تراب موجباً لتولد الحيوان منه، فلما كان أكثر الجماع لا يكون منه ولد علمنا أن الإيجاد بين الذكر والأنثى إنما هو بقدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته، ومن إرادته وقدرته كونه من ذكر وأنثى، فلا فرق في ذلك بين أن يريد كونه من أنثى بتسبيب جماع من ذكر يخرق به عادة الجماع فيجعله موجباً للحبل وبين أن يريد كونه من أنثى فقط فيخرق به عادة ما نشاهده الآن من التوليد بين الذكر والأنثى، كما أنا لما علمنا أنه ليس كل تراب يكون منه حيوان علمنا قطعاً أن هذا المتولد من تراب إنما هو بإرادة القادر واختياره لا بشيء آخر، وإلى ذلك أشار يحيى عليه الصلاة والسلام بقوله فيما سلف قريباً: إن الله قادر على أن يقيم من الحجارة أولاداً لإبراهيم، أي لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخلق المسببات فلا فرق حينئذ بين مسبب وسبب، بل كلها في قدرته سواء، وإلى ذلك أشار قوله: { ثم قال له كن } أي بشراً كاملاً روحاً وجسداً، وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في { فيكون * } دون الماضي وإن كان المتبادر إلى الذهب أن المعنى عليه حكاية للحال وتصويراً لها إشارة إلى أنه كان مع الأمر من غير تخلف وتنبيهاً على أن هذا هو الشأن دائماً، يتجدد مع كل مراد، لا يتخلف عن مراد الآمر أصلاً - كما تقدم التصريح به في آية
{ إذا قضى أمراً } [البقرة: 117] وذلك أغرب مما كان سبب ضلال النصارى الذين يجادل عن معتقدهم وفد نجران، قال سبحانه وتعالى ذلك إشارة إلى أنهم ظلموا في القياس، وكان العدل أن يقاس في خرقه للعادة بأبي أمه الذي كان يعلم الأسماء كلها وسجد له الملائكة، لا بخالقه ومكونه تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
قال الحرالي: جعل سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام مثلاً مبدؤه السلالة الطينية، وغايته النفخة الأمرية، وكان عيسى عليه الصلاة ولاسلام مثلاً مبدؤه الروحية والكلمة، وغايته التكمل بملابسة السلالة الطينية، حتى قال صلى الله عليه وسلم: إنه عند نزوله في خاتمة اليوم المحمدي يتزوج امرأة من بني أسد ويولد له غلام لتكمل به الآدمية في العيسوية كما كملت العيسوية في الآدمية وليكون مثلاً واحداً أعلى جامعاً
{ وله المثل الأعلى في السماوات والأرض } [الروم: 27] - انتهى.
ولما ابتدأ القصة بالحق في قوله: { نزل عليك الكتاب بالحق } ختمها بذلك على وجه آكد وأضخم فقال: { الحق } أي الكامل في الثبات كائن { من ربك } أي المحسن إليك بأنه لا يدع لخصم عليك مقالاً، ولما تسبب عما مضى نقلاً وعقلاً الاعتقاد الحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام قال: { فلا تكن من الممترين * } مشيراً بصيغة الافتعال إلى أنه لا يشك فيه بعد هذا إلا من أمعن الفكر في شبه يثيرها وأوهام يزاولها ويستزيرها، وما أحسن ما في سفر الأنبياء الإسرائيليين الذي هو بأيدي الطائفتين اليهود ثم النصارى، يتناقلونه معتقدين ما فيه، وأوضحه في خلاف معتقدهم في عيسى عليه الصلاة والسلام وموافقة معتقدنا فيه، لكنهم لا يتدبرون، وذلك أنه قال في نبوة أشعيا عليه السلام: اسمع مني يا يعقوب عبدي وأنت يا إسرائيل الذي انتخبته! أنا الذي خلقتك في الرحم وأعنتك، ثم قال: هكذا يقول: يقول الرب: أنا الذي جبلتك في الرحم وخلصتك وأعنتك، أنا الذي خلقت الكل، وأنا الذي مددت السماء وحدي، وأنا الذي ثبتّ الأرض، أنا الذي أبطل آيات العرافين، وأصير كل تعريفهم جهلاً، وأرد الحكماء إلى خلفهم، وأعرف أعمالهم للناس، وأثبت كلمة عبيدي، وأتمم قول رسلي؛ ثم قال: أنا الرب الذي خلقت هذه الأشياء، الويل للذي يخاصم خالقه ولا يعلم أنه من خزف الطين! لعل الطين يقول للفاخوري: لماذا تصنعني؟ أو لعله يقول له: لست أنا من صنعتك، الويل للذي يقول لأبيه: لماذا ولدتني؟ أو لأمه: لماذا حبلت بي؟ هكذا يقول الرب قدوس إسرائيل ومخلصه: أنا الذي خلقت السماء ومددتها بيدي وجميع أجنادها، وجعلت فيها الكواكب البهية.
ذكر ما يحتاج إليه المفسرون - ويثمر إن شاء الله سبحانه وتعالى زيادة الإيقان لكل مسلم - من قصة عيسى عليه السلام في ولادته وما يتعلق بهذه السورة من مبدإ أمره ومنتهاه وبعض ما ظهر على يديه من الآيات ولسانه من الحكم المشيرة إلى أنه عبد الله ورسوله وغير ذلك من الأناجيل الأربعة التي في أيدي النصارى اليوم، وقد أدخلت كلام بعضهم في بعض وجمعت ما تفرق من المعاني في سياقاتهم بحيث صار الكل حديثاً واحداً:
قال متى - ومعظم السياق له -: كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داود بن ابراهيم عليهم الصلاة والسلام، ثم قال: لكل الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلاً، ومن داود إلى زربابل أربعة عشر جيلاً، ومن زربابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً؛ لما خطبت مريم أمه ليوسف قبل أن يفترقا وجدت حبلاً من روح القدس، وكان يوسف خطيبها صديقاً ولم يرد أن ينشرها، وهم بتخليتها سراً، وفيما هو مفكر في هذا إذا ظهر له ملاك الرب في الحلم قائلاً: يا يوسف بن داود! لا تخف أن تأخذ مريم خطيبتك، فإن الذي تلده هو من روح القدس، وستلد ابناً ويدعى اسمه يسوع، وهو يخلص شعبه من خطاياهم، هذا كله كان لكي يتم ما قيل من قبل الرب على لسان النبي القابل: ها هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعى اسمه "عمانويل" الذي تفسيره: الله معنا، فقام يوسف من النوم وصنع كما أمره ملاك الرب وأخذ مريم خطيبته ولم يعرفها حتى ولدت ابناه البكر، ودعي اسمه يسوع.
وفي إنجيل لوقا: ولما كان في تلك الأيام - أي أيام ولادة يحيى بن زكريا عليهم السلام - خرج أمر من أوغوسطوس قيصر بأن يكتب جميع المسكونة هذه الكتبة الأولى في ولاية فرسوس على الشام، فمضى جميعهم ليكتتب كل واحد منهم في مدينته، فصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم، لأنه كان من بيت داود وقبيلته ليكتتب مع مريم خطيبته وهي حبلى، فبينما هما هناك إذ تمت أيام ولادتها لتلد، فولدت ابنها البكر ولفته وتركته في مزود لأنه لم يكن لهما موضع حيث نزلا، وكان في تلك الكورة رعاة يسهرون لحراسة الليل نوباً على مراعيهم، وإذا ملاك الرب قد وقف بهم ومجد الرب أشرق عليهم، فخافوا خوفاً عظيماً، قال لهم الملاك: لا تخافوا الآن، هو ذا أبشركم بفرح عظيم يكون لكم ولجميع الشعوب، لأنه ولد لكم اليوم مخلص، الذي هو المسيح في مدينة داود، وهذه علامة لكم أنكم تجدون طفلاً ملفوفاً موضوعاً في مزود، وللوقت بغتة تراءى مع الملاك جنود كثيرة سماويون، يسبحون الله سبحانه وتعالى ويقولون: المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة؛ فلما صعد الملائكة إلى السماء قال الرجال الرعاة بعضهم لبعض: امضوا بنا إلى بيت لحم لننظر الكلام الذي أعلمنا به الرب، فجاؤوا مسرعين فوجدوا مريم ويوسف والطفل موضوعاً في مزود؛ فلما رأوه علموا أن الكلام الذي قيل لهم عن الصبي حق، وكل من سمع تعجب مما تكلم به الرعاة، وكانت مريم تحفظ هذا الكلام كله وتقيه، ورجع الرعاة يمجدون الله سبحانه وتعالى ويسبحون على كل ما سمعوا وعاينوا كما قيل لهم.
ولما تمت ثمانية أيام أتوا به ليختن ودعوا اسمه يسوع كالذي دعاه الملاك قبل أن تحبل به في البطن، فلما كملت أيام تطهيرها - على ما في ناموس موسى - صعدوا به إلى يروشليم ليقيموه للرب، كما هو مكتوب في ناموس الرب أن كل ذكر فاتح رحم أمه يدعى قدوس الرب، ويقرب عنه - كما هو مكتوب في ناموس الرب - زوج يمام أو فرخا حمام؛ وكان إنسان بايروشليم اسمه شمعون، وكان رجلاً باراً تقياً، يرجو عز بني إسرائيل، وروح القدس كان عليه، وكان يوحى إليه من روح القدس أنه لا يموت حتى يعاين المسيح الرب، فأقبل بالروح إلى الهيكل عندما جاؤوا بالطفل يسوع ليصفى عنه كما يجب في الناموس، فحمله على ذراعه وبارك الرب قائلاً: الآن يا سيد! أطلق عبدك بسلام لكلامك، لأن عيني أبصرتك خلاصك الذي أعددت قدام جميع الشعوب، نور استعلن للأمم ومجد لشعبك إسرائيل، وكان يوسف وأمه يتعجبان مما يقال عنه، وباركهما شمعون وقال لمريم أمه: هوذا هذا موضوع لسقوط كثير وقيام كثير من بني إسرائيل. وكانت حنة النبية ابنة فانوئل من سبط أشير قد طعنت في أيامها وأقامت مع زوجها سبعة وستين بعد بكوريتها، وترملت أربعة وثمانين عاماً غير مفارقة للهيكل عائدة للصّوم، وللطلبة ليلاً ونهاراً، وفي تلك الساعة جاءت قدامه معترفة لله وكانت تتكلم من أجله عند كل أحد، تترجى خلاص يروشليم، فلما أكملوا كل شيء على ما في ناموس الرب رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة، فأما الصبي فكان ينشأ ويتقوى بالروح ويمتلىء بالحكمة، ونعمة الله كانت عليه، وأبواه يمضيان إلى يروشليم في كل سنة في عيد الفصح.
وقال متى: فلما ولد يسوع في بيت لحم يهودا في أيام هيرودس الملك إذا مجوس وافوا من المشرق إلى يروشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود لأنا رأينا نجمة في المشرق، ووافينا لنسجد له، فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجمع يروشليم وجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب واتسخبرهم: أين يولد المسيح؟ فقالوا له: في بيت لجحم أرض يهودا - كما هو مكتوب في النبي: وأنت يا بيت لحم أرض يهودا لست بصغيرة في ملوك يهود، يخرج منك مقدم، الذي يرعى شعب بني إسرائيل. حينئذ دعا هيرودس والروم المجوس سراً، وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم وأرسلهم إلى بيت لحم قائلاً: امضوا فابحثوا عن الصبي باجتهاد، فإذا وجدتموه فأخبروني لآتي أنا وأسجد له، فلما سمعوا من الملك ذهبوا، وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يقدمهم حتى جاء ووقف حيث كان الصبي، فلما رأوا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جداً، وأتوا إلى البيت فرأوا الصبي، مع مريم أمه، فخروا له سجداً وفتحوا أوعيتهم وقدموا له قرابين ذهباً ولُباناً ومُرّاً، وأنحى إليهم في الحلم أن لا يرجعوا إلى هيردوس، بل يذهبوا في طريق أخرى إلى كورتهم، فلام ذهبوا وإذ ملاك الرب تراءى ليوسف في الحلم قائلاً: قم، خذ الصبي وأمه واهرب إلى أرض مصر وكن هناك حتى أقول لك, فإن هيردوس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه، فقام وأخذ الصبي أمه ليلاً، ومضى إلى مصر وكان هناك إلى وفاة هيرودس، لكي يتم ما قيل من قبل الرب بالنبي القابل من مصر: دعوت ابني؛ حينئذ لما رأى هيرودس سخرية المجوس به غضب جداً وأرسل، فقتل كل صبيان بيت لحم وكل تخومها من ابن سنتين فما دون، كنحو الزمان الذي تحقق عنده من المجوس، حينئذ تم ما قيل من أرميا النبي حيث يقول: صوت سمع في الزأمة، بكاء ونوح وعويل كثير، راحيل تبكي على بنيها ولا تريد أن تتعزى لفقدهم؛ فلما مات هيرودس ظهر ملاك الرب ليوسف في الحلم بمصر قائلاً: قم، خذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل؛ فما سمع أن أورشلاوش قد ملك على اليهودية عوض هيرودس أبيه خاف أن يذهب إلى هناك، فأخبر في الحلم وذهب إلى حور ناحية الجليل، فأتى وسكن في مدينة تدعى ناصرة لكي يتم ما قيل في الأنبياء: إنه يدعى ناصريا وفي إنجيل لوقا: فلما تمت له اثنتا عشرة سنة مضوا إلى يروشليم إلى العيد كالعادة، فلما كملت الأيام ليعودوا تخلف عنهما يسوع في يروشليم ولم تعلم أمه ويوسف، لأنهما كانا يظنان أنه مع السائرين في الطريق، فلما ساروا نحو يوم طلباه عند أقربائهما ومعارفهما فلم يجداه، فرجعا إلى يروشليم يطلبانه، وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالساً بين العلماء يسمع منهم ويسألهم، وكان كل من يسمعه مبهوتين من علمه وإجابته لهم، فلما أبصراه بهتا، فقالت له أمه: يا بني! ما هذا الذي صنعت بنا؟ إن أباك وأنا كنا نطلبك باجتهاد معذبين، فقال لهما: لم تطلباني؟ أما تعلمان أنه ينبغي أن أكون في الذي لأبي؟ فأما هما فلم يفهما الكلام ونزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان يطيعهما، فأما يسوع فكان ينشأ في قامته وفي الحكمة والنعمة عند الله والناس.
قال متى: وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية يهودا - إلى آخر ما تقدم آنفاً من بشارة يحيى عليه الصلاة والسلام به، ثم قال: حينئذ أتى يسوع من الجليل إلى الأردن ليعتمد من يوحنا، فامتنع يوحنا منه وقال: أنا المحتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي، فأجاب يسوع: دع الآن، هكذا يجب لنا أن نكمل كل البر، حينئذ تركه فاعتمد يسوع، وللوقت صعد من الماء فانفتحت له السماوات، ورأى روح الله نازلاً كمثل حمامة جائياً إليه. وقال مرقس: وكان تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واصطنع في نهر الأردن من يوحنا، فساعة صعد من الماء رأى السماوات قد انشقت، وروح القدس كالحمامة نزلت عليه، وللوقت أخرجه الروح إلى البرية، وأقام بها أربعين يوماً وأربعين ليلة، وهو مع الوحوش، والملائكة تخدمه. وقال متى: وصام أربعين يوماً وأربعين ليلة. وقال لوقا: وكان لما اعتمد جميع الشعب واعتمد يسوع فبينما هو يصلي انفتحت السماء ونزل عليه روح القدس شبه جسد حمامة، وكان قد صار ليسوع ثلاثون سنة وكان يُظنّ أنه ابن يوسف وأن يسوع امتلأ من روح القدس ورجع من الأردن، فانطلق به الروح أربعين يوماً، لم يأكل شيئاً في تلك الأيام؛ ثم قال: ورجع يسوع إلى الجليل بقوة الروح وخرج خبره في كل الكورة، وكان يعلم في مجامعهم ويمجده كل أحد، وجاء إلى الناصرة حيث كان تربى ودخل كعادته إلى مجمعهم يوم السبت، وقام ليقرأ فدفع إليه سفر أشعيا النبي, فلما فتح السفر وجد الموضع الذي فيه مكتوب: روح الرب عليّ، من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين وأشفي منكسري القلوب وأبشر المأسورين بالتخلية والعميان بالنظر، وأرسل المربوطين بالتخلية، وأبشر بالسنة المقبولة للرب والأيام التي أعطانا إلهنا؛ ثم طوى السفر ودفعه إلى الخادم وجلس، وكل من كان في الجمع كانت عيونهم محدقة إليه، فبدأ يقول لهم: اليوم كمل هذا المكتوب بأسماعكم؛ وفي إنجيل يوحنا: إن يسوع قال: إن كنت أنا أشهد لنفسي فليست شهادتي حقاً، ولكن الذي يشهد لي بها حق، أنتم أرسلتم إليّ يوحنا فشهد لي بالحق، وأما أنا فلست أطلب شهادة من إنسان ولكني أقول هذا لتخلصوا أنتم، وأنا على أعظم من شهادة يوحنا لأن الأعمال التي أعملها تشهد من أجلي أن الرب أرسلني، والذي أرسلني قد شهد لي ولم تسمعوا قط صوته ولا عرفتموه ولا رأيتموه، وكلمته لا تثبت فيكم لأنكم لستم تؤمنون بالذي أرسل، فتشوا الكتب التي تظنون أن تكون لكم بها حياة الأبد فهي تشهد من أجلي، لست آخذ المجد من الناس أنا أتيت باسم أبي فلم تقبلوني، وإن أتاكم آخر باسم نفسه قبلتموه، كيف تقدرون أن تؤمنوا وإنما تقبلون المجد بعضكم، من بعض ولا تظنون أن المجد من الله تعالى الواحد، لا تظنوا أني أشكوكم، إن لكم من يشكوكم: موسى الذي عليه تتوكلون، فلو كنتم آمنتم بموسى آمنتم بي، لأن ذلك كتب من أجلي، وإن كنتم لا تؤمنون بكتب ذلك فكيف تؤمنون بكلامي - انتهى ما وقع الاختيار أخيراً على إثباته هنا، وفيه من الألفاظ المنكرة في شرعنا إطلاق الأب والابن، وقد تقدم التنبيه على مثل ذلك.
ولما أتاهم سبحانه وتعالى من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام بالفصل في البيان الذي ليس بعده إلا العناد، فبين أولاً ما تفضل فيه عيسى عليه الصلاة والسلام من أطوار الخلق الموجبة للحاجة المنافية للإلهية، ثم فضح بتمثيله بآدم عليه الصلاة والسلام شبهتَهم، ألزمهم عل تقديره بالفيصل الأعظم للمعاند الموجب للعذاب المستأصل أهل الفساد فقال سبحانه وتعالى: { فمن } أي فتسبب عما آتيناك به من الحق في أمره أنا نقول لك: من { حآجك فيه } أي خاصمك بإيراد حجة، أي كلام يجعله في عداد ما يقصد.
ولما كان الملوم إنما هو من بلغته هذه الآيات وعرف معناها دون من حاج في الزمان الذي هو بعد نزولها دون اطلاعه عليها قال: { من } أي مبتدئاً المحاجة من، ويجوز أن يكون الإتيان بمن لئلا يفهم أن المباهلة تختص بمن استغرق زمان البعد بالمجادلة { بعدما جآءك من العلم } أي الذي أنزلنان إليك وقصصناه عليك في أمره { فقل تعالوا } أي اقبلوا أيها المجادلون إلى أمر نعرف فيه علو المحق وسفول المبطل { ندع أبنآءنا وأبناءكم } أي الذي هم أعز ما عند الإنسان لكونهم بعضه { ونساءنا ونساءكم } أي اللاتي هن أولى ما يدافع عنه أولو الهمم العوالي { وأنفسنا وأنفسكم } فقدم ما يدافع عنه ذوو الأحساب ويفدونه بنفوسهم، وقدم منه الأعز الألصق بالأكباد وختم بالمدافع، وهذا الترتيب على سبيل الترقي إذا اعتبرت أنه قدم الفرع ثم الأصل وبدأ بالأدنى وختم بالأعلى، وفائدة الجمع الإشارة إلى القطع بالوثوق بالكون على الحق. ثم ذكر ما له هذا الجمع مشيراً بحرف التراخي إلى خطر الأمر وأنه مما ينبغي الاهتمام به والتروي له وإمعان النظر فيه لوخامة العاقبة وسوء المنقلب للكاذب فقال: { ثم نبتهل } أي نتضرع - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما نقله الإمام أبو حيان في نهره. وقال الحرالي: الابتهال طلب البهل، والبهل أصل معناه التخلي والضراعة في مهم مقصود - انتهى. { فنجعل لعنت الله } أي الملك الذي له العظمة كلها فهو يجبر ولا يجار عليه، أي إبعاد وطرده { على الكاذبين * } وقال ابن الزبير بعد ما تقدم من كلامه: ثم لما أتبعت قصة آدم عليه الصلاة والسلام - يعني في البقرة - بذكر بني إسرائيل لوقوفهم من تلك القصص على ما لم تكن العرب تعرفه، وأنذروا وحذروا؛ أتبعت قصة عيسى عليه الصلاة والسلام - يعني هنا - بذكر الحواريين وأمر النصارى إلى آية المباهلة - انتهى.
ولما كان العلم الأزلي حاصلاً بأن المجادلين في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام يكفون عن المباهلة بعد المجادلة خوفاً من الاستئصال في العاجلة مع الخزي الدائم في الآجلة، وكان كفهم عن ذلك موجباً للقطع بإبطالهم في دعواهم لكل من يشاهدهم أو يتصل به خبرهم، حسن كل الحسن تعقيب ذلك بقوله: - تنبيهاً على ما فيه من العظمة - { إن هذا } أي الذي تقدم ذكره من أمر عيسى عليه السلام وغيره { لهو } أي خاصة دون غيره مما يضاده { القصص الحق } والقصص - كما قال الحرالي - تتبع الوقائع بالإخبار عنها شيئاً بعد شيء على ترتيبها، في معنى قص الأثر، وهو اتباعه حتى ينتهي إلى محل ذي الأثر - انتهى.
ولما بدأ سبحانه وتعالى القصة أول السورة بالإخبار بوحدانيته مستدلاً على ذلك بأنه الحي القيوم صريحاً ختمها بمثل ذلك إشارة وتلويحاً فقال - عاطفاً على ما أنتجه ما تقدم من أن عيسى صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله معمماً للحكم معرقاً بزيادة الجار في النفي: { وما من إله } أي معبود بحق، لأن له صفات الكمال، فهو بحيث يضر وينفع { إلا الله } أي المحيط بصفات الكمال، لأنه الحي القيوم - كما مضى التصريح به، فاندرج في ذلك عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره، وقد علم من هذا السياق أنهم لما علموا تفرده تركوا المباهلة رهبة منه سبحانه وتعالى علماً منهم بأنهم له عاصون ولحقّه مضيعون وأن ما يدعون إلهيته لا شيء في يده من الدفع عنهم ولا من النفع لهم، فلا برهان أقطع من هذا.
ولما كان في نفي العزة والحكمة عن غيره تعالى نوع خفاء أتى بالوصفين على طريق الحصر فقال - عاطفاً على ما قدّرته مام أرشد السياق إلى أنه علة ما قبله من نفي: { وإن الله } أي الملك الأعظم { لهو } أي وحده { العزيز الحكيم * } وهذا بخلاف الحياة والقيومية فإنه لم يؤت بهما على طريق الحصر لظهورهما، وقد علم بلا شبهة بما علم من أنه لا عزيز ولا حكيم إلا هو أنه لا إله إلا هو.
ولما ثبت ذلك كله سبب عنه تهديدهم على الإعراض بقوله - منبهاً بالتعبير بأداة الشك على أنه لا يعرض عن هذا المحل البين إلا من كان عالماً بأن مبطل، ومثل ذلك لا يظن بذي عقل ولا مروة، فمن حق ذكره أن يكون من قبيل فرض المحالات: { فإن تولوا } أي عن إجابتك إلى ما تدعوا إليه { فإن الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { عليم } بهم، هكذا كان الأصل، فعدل عنه لتعليق الحكم بالوصف تنفيراً من مثل حالهم فقال: { بالمفسدين * } أي فهو يحكم فيهم بعلمه فينتقم منهم فسادهم بعزته انتقاماً يتقنه بحكمته فينقلبون منه بصفقة خاسر ولا يجدون من ناصر.