خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَافِرِينَ
٤٥
وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٤٦
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَٱنتَقَمْنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ
٤٧
-الروم

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما فرغ من بيان تصدعهم، ذكر علته فقال: { ليجزي } أي الله سبحانه الذي أنزل هذه السورة لبيان أنه ينصر أولياءه لإحسانهم لأنه مع المحسنين، ولذلك اقتصر هنا على ذكرهم فقال: { الذين آمنوا } أي ولو على أدنى الوجوه { وعملوا } أي تصديقاً لإيمانهم { الصالحات } ولما كانت الأعمال نعمة منه، فكان الجزاء محض إحسان، قال: { من فضله }.
ولما كان تنعيمهم من أعظم عذاب الكافرين الذين كانوا يهزؤون بهم ويضحكون منهم، علله بقوله على سبيل التأكيد لدعوى من يظن أن إقبال الدنيا على العصاة لمحبة الله لهم: { إنه لا يحب الكافرين* } أي لا يفعل مع العريقين في الكفر فعل المحب، فلا يسويهم بالمؤمنين، وعلم من ذلك ما طوى من جزائهم، فالآية من وادي الاحتباك، وهو أن يؤتي بكلامين يحذف من كل منهما شيء ويكون نظمهما بحيث يدل ما أثبت في كل على ما حذف من الآخر، فالتقدير هنا بعد ما ذكر من جزاء الذين آمنوا أنه يحب المؤمنين ويجزي الذين كفروا وعملوا السيئات بعدله لأنه لا يحب الكافرين، فغير النظم ليدل مع دلالته كما ترى على ما حذف على أن إكرام المؤمنين هو المقصود بالذات، وهو بعينه إرغام الكافرين، وعبر في شق المؤمنين بالمنتهى الذي هو المراد من محبة الله لأنه أسرّ. وفي جانب الكافرين بالمبدأ الذي هو مجاز لأنه أنكأ وأضر.
ولما ختم في أول السورة الآيات الدالة على الوحدانية المستلزمة للبعث لأن به تمام ظهور الحكمة، وانكشاف غطاء القلوب عن صفات العظمة، بأن قيام السماء والأرض بأمره وأتبع ذلك ما اشتد التحامه به، وختمه ببعض الكافرين بعد ذكر يوم البعث، أتبعه ذكر ما حفظ به قيام الوجود، وهو الرياح، يجعلها سبباً في إدرار النعم التي منها ما هو أعظم أدلة البعث وهو النبات، وهي بجملتها دليل ذلك وسبب القرار في البر والسير في البحر الموصل لمنافع بعض البلاد إلى بعض، وبذلك انتظم الأمر لأهل الأرض، فاستعمل المؤمن منهم ما رزقه سبحانه من العقل في النظر في ذلك حتى أداه إلى شكره فأحبه، واقتصر الكافر على الدأب فيما يستجلب به تلك النعم ويستكثرها، فأبطره ذلك فأوصله إلى كفره فأبغضه، والرياح أيضاً أشبه شيء بالناس، منها النافع نفعاً كبيراً، ومنها الضار ضراً كثيراً، فقال: { ومن آياته } أي الدلالات الواضحة الدالة علم كمال قدرته وتمام علمه الدال على أنه هو وحده الذي أقام هذا الوجود، وكما أنه أقامه فهو يقيم وجوداً آخر هو زبدة الأمر، ومحط الحكمة، وهو أبدع من هذا الوجود، يبعث فيه الخلق بعد فنائهم، ويتجلى لفصل القضاء بينهم، فيأخذ بالحق لمظلومهم من ظالمهم، ثم يصدعهم فيجعل فريقاً منهم في الجنة دار الإعانة والكرامة، وفريقاً في السعير غار الإهانة والملامة { أن يرسل الرياح } على سبيل التجدد والاستمرار، وهي ما عدا الدبور المشار في الحديث الشريف إلى الاستعاذة منها
"اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً" وقد تقدم من شرحي لها عند { من يرسل الرياح بشراً } في [النمل: 63] ما فيه كفاية، وفي جمعها المجمع عليه هنا لوصفها بالجمع إشارة إلى باهر القدرة، فإن تحويل الريح الواحدة من جهة إلى أخرى أمر عظيم لا قدرة لغيره عليه في الفضاء الواسع، وكذا إسكانه، فكيف إذا كانت رياح متعاكسة، ففي إثارتها كذلك ثم إسكانها من باهر القدرة ما لا يعلمه إلا أولو البصائر { مبشرات } أي لكم بكل ما فيه نفعكم من المطر والروح وبرد الأكباد ولذة العيش.
ولما كان التقدير: ليهلك بها من يشاء من عباده، أو ليدفع عنكم ما يحصل بفقدها من نقمته من الحر، وما يتبعه من انتشار المفسدات، واضمحلال المصلحات، وطواه لأن السياق لذكر النعم، عطف عليه قوله مثبتاً اللام إيضاحاً للمعطوف عليه: { وليذيقكم } وأشار إلى عظمة نعمة بالتبعيض في قوله: { من رحمته } أي نعمه من المياه العذبة والأشجار الرطبة، وصحة الأبدان، وخصب الزمان، وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا خالقها، ولا يتصورها حق تصورها إلا من فقد الرياح، من وجود الروح وزكاء الأرض وإزالة العفونة من الهواء والإعانة على تذرية الحبوب وغير ذلك، وأشار إلى عظمة هذه النعمة وإلى أنها صارت لكثرة الإلف مغفولاً عنها بإعادة اللام فقال: { ولتجري الفلك } أي السفن في جميع البحار وما جرى مجراها عند هبوبها.
ولما أسند الجري إلى الفلك نزعه منها بقوله: { بأمره } أي بما يلائم من الرياح اللينة، وإذا أراد أعصفها فأغرقت، أو جعلها متعاكسة فحيرت ورددت، حتى يحتال الملاحون بكل حيلة على إيقاف السفن لئلا تتلف.
ولما كان كل من مجرد السير في البحر والتوصل به من بلد إلى بلد نعمة في نفسه، عطف على { لتجري } قوله، منبهاً بإعادة اللام إيضاحاً للمعطوف عليه على تعظيم النعمة: { ولتبتغوا } أي تطلبوا طلباً ماضياً بذلك السير، وعظم ما عنده بالتبعيض في قوله: { من فضله } مما يسخر لكم من الريح بالسفر للمتجر من بلد إلى بلد والجهاد وغيره { ولعلكم } أي ولتكونوا إذا فعل بكم ذلك على رجاء من أنكم { تشكرون* } ما أفاض عليكم سبحانه من نعمه، ودفع عنكم من نقمه.
ولما كان التقدير: فمن أذاقه من رحمته، ومن كفر أنزل عليه من نقمته، وكان السياق كله لنصر أوليائه وقهر أعدائه، وكانت الرياح مبشرات ومنذرات كالرسل، وكانت موصوفة بالخير كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها "فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة" وكانت في كثرة منافعها وعمومها إن كانت نافعة، ومضارها إن كانت ضارة، أشبه شيء بالرسل في إنعاش قوم وإهلاك آخرين، وما ينشأ عنها كما ينشأ عنهم. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه: البخاري في العلم، ومسلم في المناقب
"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكانت طائفة منها طيبة فقبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلاء، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" ولما كان الأمر كذلك، عطف على قوله: "ينصر من يشاء" وقوله: { ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى } أو على ما تقديره تسبيباً عن قوله: { فأقم وجهك للدين القيم }: فلقد أرسلناك بشيراً لمن أطاع بالخير، ونذيراً لمن عصى بالشر، قوله مسلياً لهذا النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، وأتباعه، ولفت الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء سياق الانتقام لها، وأكد إشارة إلى أن الحال باشتداده وصل إلى حالة اليأس، أو لإنكار كثير من الناس إرسال البشر: { ولقد أرسلنا } بما لنا من العزة.
ولما كانت العناية بالإخبار بأن عادته ما زالت قديماً وحديثاً على نصر أوليائه، قال معلماً بإثبات الجار أن الإرسال بالفعل لم يستغرق زمان القبل، أو أن الكلام في خصوص الأمم المهلكة: { من قبلك } مقدماً له على { رسلاً } أوللتنبيه على أنه خاتم النبيين بتخصيص إرسال غيره بما قبل زمانه، وقال: { إلى قومهم } إعلاماً بأن بأس الله إذا جاء لا ينفع فيه قريب ولا بعيد، وزاد في التسلية بالتذكير إشارة إلى شدة أذى القوم لأنبيائهم حيث لم يقل "إلى قومها".
ولما كان إرسال الله سبباً لا محالة للبيان الذي لا لبس معه قال: { فجاءوهم بالبينات } فانقسم قومهم إلى مسلمين ومجرمين { فانتقمنا } أي فكانت معاداة المسلمين للمجرمين فينا سبباً لأنا انتقمنا بما لنا من العظمة { من الذين أجرموا } لأجرامهم، وهو قطع ما أمرناهم بوصله اللازم منه وصل ما أمروا بقطعه، فوصلوا الكفر وقطعوا الإيمان، فخذلناهم وكان حقاً علينا قهر المجرمين، إكراماً لمن عادوهم فينا، وأنعمنا على الذين آمنوا فنصرناهم.
ولما كان محط الفائدة إلزامه سبحانه لنفسه بما تفضل به، قدمه تعجيلاً للسرور وتطييباً للنفوس فقال: { وكان } أي على سبيل الثبات والدوام { حقاً علينا } أي بما أوجبناه لوعدنا الذي لا خلق فيه { نصر المؤمنين* } أي العريقين في ذلك الوصف في الدنيا والآخرة، فلم يزل هذا دأبنا في كل ملة على مدى الدهر، فإن هذا من الحكمة التي لا ينبغي إهمالها، فليعتد هؤلاء لمثل هذا، وليأخذوا لذلك أهبته لينظروا من المغلوب وهل ينفعهم شيء؟ والآية من الاحتباك: حذف أولاً الإهلاك الذي هو أثر الخذلان لدلالة النصر عليه، وثانياً الإنعام لدلالة الانتقام عليه.