خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ
٥٢
وَمَآ أَنتَ بِهَادِ ٱلْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ
٥٣
ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ
٥٤
وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ
٥٥
-الروم

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان هذا كله من حالهم في سرعة الحزن والفرح في حالتي الشدة والرخاء وإصرارهم على تجديد الكفر دليلاً على خفة أحلامهم، وسوء تدبرهم، فإنهم لا للآيات المرئية يعون، ولا للمتلوة عليهم يسمعون، سبب عن ذلك التعريف بأن أمرهم ليس لأحد غيره سبحانه وهو قد جعلهم أموات المعاني، فقال ممثلاً لهم بثلاثة أصناف من الناس، وأكده لأنهم ينكرون أن يكون حالهم كذلك والنبي صلى الله عليه وسلم شديد السعي في إسماعهم والجهد في ذلك: { فإنك } أي استدامتهم لكفرهم هذا تارة في الرخاء وتارة في الشدة وقوفاً مع الأثر من غير نظر ما إلى المؤثر وأنت تتلو عليهم آياته، وتنبههم على بدائع بيناته بسبب أنك { لا تسمع الموتى } أي ليس في قدرتك إسماع الذين لا حياة لهم، فلا نظر ولا سمع، أو موتى القلوب، إسماعاً ينفعهم، لأنه مما اختص به سبحانه، وهؤلاء منهم من هم مثل الأموات لأن الله تعالى قد ختم على مشاعرهم { ولا تسمع } أي أنت في قراءة الجماعة غير ابن كثير { الصم } أي الذين لا سمع لهم أصلاً، وذكر ابن كثير الفعل من سمع ورفع الصم على أنه فاعل، فكان التقدير: فإن من مات أو مات قلبه ولا يسمع ولا يسمع الصم { الدعاء } إذا دعوتهم، ثم لما كان الأصم قد يحس بدعائك إذا كان مقبلاً بحاسة بصره قال: { إذا ولوا } وذكر الفعل ولم يقل: ولت، إشارة إلى قوة التولي لئلا يظن أنه أطلق على المجانبة مثلاً، ولذا بنى من فاعله حالاً هي قوله: { مدبرين* }.
ولما بدأ بفاقد حاسة السمع لأنها أنفع من حيث إن الإنسان إنما يفارق غيره من البهائم بالكلام، أتبعها حاسة البصر مشيراً بتقديم الضمير إلى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في هدايتهم اجتهاد من كأنه يفعله بنفسه تدريباً لغيره في الاقتصاد في الأمور فقال: { وما أنت بهاد العمي } أي بموجد لهم هداية وإن كانوا يسمعون، هذا في قراءة الجماعة غير حمزة، وجعله حمزة فعلاً مضارعاً مسنداً إلى المخاطب من هدى، فالتقدير: وما أنت تجدد هداية العمي { عن ضلالتهم } إذا ضلوا عن الطريق فأبعدوا وإن كان أدنى ضلال - بما أشار إليه التأنيث، وإن أتعبت نفسك في نصيحتهم، فإنهم لا يسلكون السبيل إلا وأيديهم في يدك ومتى غفلت عنهم وأنت لست بقيوم رجعوا إلى ضلالهم، فالمنفي في هذه الجملة في قراءة الجمهور ما تقتضيه الاسمية من دوام الهداية مؤكداً، وقراءة حمزة ما يقتضيه المضارع من التجدد وفي التي قبلها ما تقتضيه الفعليه المضارعة من التجدد ما دام مشروطاً بالإدبار، وفي الأولى تجدد السماع مطلقاً فهي أبلغ ثم التي بعدها، فممثول الصنف الأول من لا يقبل الخير بوجه ما مثل أبي جهل وأبيّ بن خلف، والثاني من قد يقارب مقاربة ما مثل عتبة بن ربيعة حين كان يقول لهم: خلو بين هذا الرجل وبين الناس، فإن أصابوه فهو ما أردتم وإلا فعزه عزكم، والثالث المنافقون، وعبر في الكل بالجمع لأنه أنكأ - والله الموفق.
ولما كان ذلك كناية عن إيغالهم في الكفر، بينه ببيان أن المراد موت القلب وصممه وعماه لا الحقيقي بقوله: { إن } أي ما { تسمع إلا من يؤمن } أي يجدد إيمانه مع الاستمرار مصدقاً { بآياتنا } أي فيه قابلية ذلك دائماً، فهو يذعن للآيات المسموعة، ويعتبر بالآيات المصنوعة، وأشار بالإفراد في الشرط إلى أن لفت الواحد عن رأيه أقرب من لفته وهو مع غيره، وأشار بالجمع في الجزاء إلى أن هذه الطريقة إن سلكت كثر التابع فقال: { فهم } أي فتسبب عن قبولهم لذلك أنهم { مسلمون } أي منقادون للدليل غاية الانقياد غير جامدين مع التقليد.
ولما دل سبحانه على قدرته على البعث بوجوه من الدلالات، تارة في الأجسام، وتارة في القوى، وأكثر على ذلك في هذه السورة من الحجج البينات، وختم لأنه لا يبصر هذه البراهين إلا مَنْ حسنت طويته، فلانت للأدلة عريكته، وطارت في فيافي المقادير بأجنحة العلوم فكرته ورويته، وصل بذلك دليلاً جامعاً بين القدرة على الأعيان والمعاني إبداء وإعادة، ولذلك لفت الكلام إلى الاسم الجامع ولفته إلى الخطاب للتعميم والاستعطاف بالتشريف، فقال مؤكداً إشارة إلى أن ذلك دال على قدرته على البعث ولا وهم ينكرونها، فكأنهم ينكرونه، فإنه لا انفكاك لأحدهما عن الآخر: { الله } أي الجامع لصفات الكمال وحده.
ولما كان تعريف الموصول ظاهراً غير ملبس، عبر به دون اسم الفاعل فقال: { الذي خلقكم } أي من العدم. ولما كان محط حال الإنسان وما عليه أساسه وجبلته الضعف، وأضعف ما يكون في أوله قال: { من ضعف } أي مطلق - بما أشارت إليه قراءة حمزة وعاصم بخلاف عن حفص بفتح الضاد، وقوى بما أشارت إليه قراءة الباقين بالضم، أو من الماء المهين إلى ما شاء الله من الأطوار، ثم ما شاء الله من سن الصبي.
ولما كانت تقوية المعنى الضعيف مثا إحياء الجسد الميت قال: { ثم جعل } عن سبب وتصيير بالتطوير في أطوار الخلق بما يقيمه من الأسباب، ولما كان ليس المراد الاستغراق عبر بالجار فقال: { من بعد } ولما كان الضعف الذي تكون عنه القوة غير الأول، أظهر ولم يضمر فقال: { ضعف قوة } بكبر العين والأثر من حال الترعرع إلى القوة بالبلوغ إلى التمام في أحد وعشرين عاماً، وهو ابتداء سن الشباب إلى سن الاكتمال ببلوغ الأشد في اثنين وأربعين عاماً فلو لا تكرر مشاهدة ذلك لكان خرق العادة في إيجاده بعد عدمه مثل إعادة الشيخ شاباً بعد هرمه { ثم جعل من بعد قوة } في شباب تقوى به القلوب، وتحمى له الأنوف، وتشمخ من جرائه النفوس { ضعفاً } رداً لما لكم إلى أصل حالكم.
ولما كان بياض الشعر يكون غالباً من ضعف المزاج قال: { وشيبة } وهي بياض في الشعر ناشىء من برد في المزاج ويبس يذبل بهما الجسم، وينقص الهمة والعلم، وذلك بالوقوف من الثالثة والأربعين، وهو أول سن الاكتهال وبالأخذ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين، وهو أول سن الشيخوخة، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى.
ولما كانت هذه هي العادة الغالبة وكان الناس متفاوتين فيها، وكان من الناس من يطعن في السن وهو قوي، أنتج ذلك كله - ولا بد - التصرف بالاختيار مع شمول العلم وتمام القدرة فقال: { يخلق ما يشاء } أي من هذا وغيره { وهو العليم } أي البالغ العلم فهو يسبب ما أراد من الأسباب لما يريد إيجاده أو إعدامه { القدير* } فلا يقدر أحد على إبطال شيء من أسبابه، فلذلك لا يتخلف شيء أراده عن الوقت الذي يريده فيه أصلاً، وقدم صفة العلم لاستتباعها للقدرة التي المقام لها، فذكرها إذن تصريح بعد تلويح، وعبارة بعد إشارة.
ولما ثبتت قدرته على البعث وغيره، عطف على قوله أول السورة { ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون } أو على ما تقديره: فيوم يريد موتكم تموتون، لا تستأخرون عن لحظة الأجل ولا تستقدمون، قوله: { ويوم تقوم الساعة } أي القيامة التي هي إعادة الخلائق الذين كانوا بالتدريج في ألوف من السنين لا يعلم مقدارها إلا الله تعالى في أقل من لمح البصر، ولذا سميت بالساعة إعلاماً بيسرها عليه سبحانه { يقسم المجرمون } أي العريقون في الإجرام جرياً منهم على ديدن الجهل في الجزم بما لم يحيطوا به علماً: { ما } أي إنهم ما { لبثوا } في الدنيا والبرزخ { غير ساعة } أي قدر يسير من ليل أو نهار.
ولما كان هذا أمراً معجباً لأنه كلام كذب بحيث يؤرث أشد الفضيحة والخزي في ذلك الجمع الأعظم مع أنه غير مغنٍ شيئاً، استأنف قوله تنبيهاً على أنه الفاعل له: فلا عجب { كذلك } أي مثل ذلك الصرف عن حقائق الأمور إلى شكوكها { كانوا } في الدنيا كوناً هو كالجبلة { يؤفكون* } أي يصرفون عن الصواب الذي منشأه تحري الصدق والإذعان للحق إلى الباطل الذي منشأه تحري المغالبة بصرفنا لهم، فإنه لا فرق في قدرتنا وعلمنا بين حياة وحياة، ودار ودار، ولعله بنى الفعل للمجهول إشارة إلى سهولة انقيادهم إلى الباطل مع أيّ صارف كان.