خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
٢٨
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٢٩
ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلْبَاطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ
٣٠
-لقمان

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ختم بهاتين الصفتين بعد إثبات القدرة على الإبداع من غير انتهاء، ذكر بعض آثارهما في البعث الذي تقدم أول السورة وأثناءها ذكره إلى حذرهم به في قوله "إلينا مرجعهم" فقال: { ما خلقكم } أي كلكم في عزته وحكمته إلا كخلق نفس واحدة، وأعاد النافي نصاًَ على كل واحد من الخلق والبعث على حدته فقال: { ولا بعثكم } كلكم { إلا كنفس } أي كبعث نفس، وبين الأفراد تحقيقاً للمراد، وتأكيداً للسهولة فقال: { واحدة } فإن كلماته مع كونها غير نافدة نافذة، وقدرته مع كونها باقية بالغة، فنسبه القليل والكثير إلى قدرته على حد سواء، لأنه لا يشغله شأن عن شأن، ثم دل على ذلك بقوله مؤكداً لأن تكذيبهم لرسوله وردهم لما شرفهم به يتضمن الإنكار لأن يكونوا بمرأى منه ومسمع: { إن الله } أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة الشاملة { سميع } أي بالغ السمع يسمع كل ما يمكن سمعه من المعاني في آن واحد لا يشغله شيء منها عن غيره { بصير* } بليغ البصر يبصر كذلك كل ما يمكن أن يرى من الأعيان والمعاني، ومن كان كذلك كان المحيط العلم بالغه شامل القدرة تامها، فهو يبصر جميع الأجزاء من كل ميت، ويسمع كل ما يسمع من معانيه، فهو بإحاطة علمه وشمول قدرته يجمع تلك الأجزاء، ويميز بعضها من بعض، ويودعها تلك المعاني، فإذا هي أنفس قائمة كما كانت أول مرة في أسرع من لمح البصر.
ولما قرر هذه الآية الخارقة، دل عليها بأمر محسوس يشاهد كل يوم مرتين، مع دلالته على تسخير ما في السماوات والأرض، وإبطال قولهم:
{ ما يهلكنا إلا الدهر } } [الجاثية: 24] بأنه، هو الذي أوجد الزمان بتحريك الأفلاك، خاصاً بالخطاب من لا يفهم ذلك حق فهمه غيره، أو عاماً كل عاقل، إشارة إلى أنه في دلالته على البعث في غاية الوضوح فقال: { ألم تر } أي يا من يصلح لمثل هذا الخطاب، ويمكن أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم ذلك من المخلوقين حق علمه غيره.
ولما كان كان البعث مثل إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه، فكان إنكاره إنكارً لهذا، نبه على ذلك بالتأكيد فقال: { أن الله } أي بجلاله وعز كماله { يولج } أي يدخل إدخالاً لا مرية فيه { الليل في النهار } فيغيب فيه بحيث لا يرى شيء منه، فإذا النهار قد عم الأرض كلها أسرع من اللمح { ويولج النهار } أي يدخله كذلك { في الليل } فيخفي حتى لا يبقى له أثر، فإذا الليل قد طبق الآفاق: مشارقها ومغاربها في مثل الظرف، فيميز سبحانه كلاً منهما - وهو معنى من المعاني - من الآخر بعد إضمحلاله، فكذلك الخلق والبعث في قدرته بعزته وحكمته لبلوغ سمعه ونفوذ بصره، ولما كان هذا معنى من المعاني يتجدد في كل يوم وليلة، عبر فيه بالمضارع.
ولما كان النيران جرمين عظيمين قد صرفنا على طريق معلوم بقدر لا يختلف، عبر فيهما بالماضي عقب ما هما آيتاه فقال: { وسخر الشمس } آية للنهار بدخول الليل فيه { والقمر } آية لليل كذلك! ثم استأنف ما سخرا فيه فقال: { كل } أي منهما { يجري } أي في فلكه سائراً متمادياً وبالغاً ومنتهياً.
ولما كان محط مقصود السورة الحكمة، وكانت هذه الدار مرتبطة بحكمة الأسباب والتطوير، والمد في الإبداع والتسيير، كان الموضع لحرف الغاية فقال: { إلى أجل مسمى } لا يتعداه في منازل معروفة في جميع الفلك لا يزيد ولا ينقص، هذا يقطعها في الشهر مرة وتلك في السنة مرة، لا يقدر منهما أن يتعدى طوره، ولا أن ينقص دوره، ولا أن يغير سيره.
ولما بان بهذا التدبير المحكم، في هذا الأعظم، شمول علمه وتمام قدرته، عطف على "أن الله" قوله مؤكداً لأجل أن أفعالهم أفعال من ينكر علمه بها: { وأن الله } أي بما له من صفات الكمال المذكورة وغيرها، وقدم الجار إشارة إلى تمام علمه بالأعمال كما مضت الإشارة إليه غير مرة، وعم الخطاب بياناً لما قبله وترغيباً وترهيباً فقال: { بما تعملون } أي في كل وقت على سبيل التجدد { خبير * } لا يعجزه شيء منه ولا يخفى عنه، لأنه الخالق له كله دقه وجله، وليس للعبد في إيجاده غير الكسب لأنه لا يعلم مقدار الحركات والسكنات في شيء منه، ولو كان هو الموجد له لعلم ذلك لأنه لا يقدر على الإيجاد ناقص العلم أصلاً، وكم أخبر سبحانه في كتبه وعلى لسان أنبيائه بأشياء مستقبلية من أمور العباد، فكان ما قاله كما قاله، لم يقدر أحد منهم أن يخالف في شيء مما قاله، فتمت كلماته، وصدقت إشاراته وعباراته، وهذا دليل آخر على تمام القدرة على البعث وغيره باعتبار أن الخلائق في جميع الأرض يفوتون الحصر، وكل منهم لا ينفك في كل لحظة عن عمل من حركة وسكون، وهو سبحانه الموجد لذلك كله في كل أن دائماً ما تعاقب الملوان، وبقي الزمان، لا يشغله شأن منه على شأن، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم لما خوطبوا بهذا في غاية العلم به. لما ذكر من دليله، ولما شاهدوا من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن مغيبات تتعلق بأناس غائبين وأناس حاضرين، منهم البعيد جداً والمتوسط والقريب، وغير ذلك من أحوال توجب القطع لهم بذلك، هذا علمهم فكيف يكون عالم المخصوص في هذه الآية بالخطاب صلى الله عليه وسلم، مع ما يشاهد من آثاره سبحانه وتعالى، ويطلع عليه من إبداعه في ملكوت السماوات والأرض وغير ذلك مما أطلعه عليه سبحانه وتعالى من عالم الغيب والشهادة.
ولما ثبت بهذه الأوصاف الحسنى والأفعال العلى أنه لا موجد بالحقيقة إلا الله قال: { ذلك } أي ذكره لما من الأفعال الهائلة والأوصاف الباهرة { بأن } أي بسبب أن { الله } أي الذي لا عظيم سواه { هو } وحده { الحق } أي الثابت بالحقيقة وثبوت غيره في الواقع عدم، لأنه مستفاد من الغير، وليس له الثبوت من ذاته، ومنه ما أشركوا به، ولذلك أفرده بالنص، فقال صارفاً للخطاب الماضي إلى الغيبة على قراءة البصريين وحمزة وحفص عن عاصم إيذاناً بالغضب، وقراءة الباقين على الأسلوب الماضي { وأنَّ ما يدعون } أي هؤلاء المختوم على مداركهم، وأشار إلى سفول رتبتهم بقوله: { من دونه }.
ولما تقدمت الأدلة الكثيرة على بطلان آلهتهم بما لا مزيد عليه، كقوله { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } وأكثر هنا من إظهار الجلالة موضع الإضمار تنبيهاً على عظيم المقام لم تدع حاجة إلى التأكيد بضمير الفصل فقال: { الباطل } أي العدم حقاً، لا يستحق أن تضاف إليه الإلهية بوجه من الوجوه، وإلا لمنع من شيء من هذه الأفعال مرة من المرات، فلما وجدت على هذا النظام علم أنه الواحد الذي لا مكافئ له.
ولما كانوا يعلونها عن مراتبها ويكبرونها بغير حق، قال: { وأن الله } أي الملك الأعظم وحده، ولما كان النيران مما عبد من دون الله، وكانا قد جمعاً علواً وكبراً، وكان ليس لهما من ذاتهما إلا العدم فضلاً عن السفول والصغر، ختم بقوله: { هو العلي الكبير } أي عن أن يداينه في عليائه ضد، أو يباريه في كبريائه ند.