خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱلْفُلْكَ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ ٱللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
٣١
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ
٣٢
-لقمان

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما تضمنت الآية ثلاثة أشياء، أتبعها دليلها، فقال منبهاً على أن سيرنا في الفلك مثل سير النجوم في الفلك، وسير أعمارنا في فلك الأيام حتى يولجنا في بحر الموت مثل سير كل من الليل والنهار في فلك الشمس حتى يولجه في الآخر فيذهب حتى كأنه ما كان، ولولا تفرده بالحقية والعلو والكبر ما استقام ذلك، خاصاً بالخطاب أعلى الناس، تنبيهاً على أن هذه لكثرة الألف لها أعرض عن تأملها، فهو في الحقيقة حث على تدبرها، ويؤيده الإقبال على الكل عند تعليلها: { ألم تر أن الفلك } أي السفن كباراً وصغاراً { تجري } أي بكم حاملة ما تعجزون عن نقل مثله في البر، وعبر بالظرفية إشارة إلى أنه ليس لها من ذاتها إلا الرسوب في الماء لكثافتها ولطافته فقال: { في البحر } أي على وجه الماء، وعبر عن الفعل بأثره لأنه أحب فقال: { بنعمت الله } أي برحمة الملك الأعلى المحيط علماً وقدرة وإحسانه، مجدداً ذلك على مدى الزمان عليكم في تعليمكم صنعها حتى تهيأت لذلك على يدي أبيكم نوح العبد الشكور عليه السلام { ليريكم من آياته } أي عجائب قدرته ودلائله التي تدلكم على أنه الحق الذي أثبت بوجوب وجوده ما ترون من الأحمال الثقال على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها، وهي مساوية لغيرها في أن الكل من التراب، فما فاوت بينها إلا هو بتمام قدرته وفعله بالاختيار.
ولما كان هذا أمراً إذا جرد النظر فيه عن كونه قد صار مألوفاً بهر العقول وحير الفهوم، أشار إليه بقوله مؤكداً تنبيهاً مما هم فيه من الغفلة عنه، لافتاً الخطاب بعد الجمع إلى الإفراد تنبيهاً على دقة الأمر وأنه - وإن كان يظن أنه ظاهر - لا يفهمه حق فهمه غيره صلى الله عليه وسلم: { إن في ذلك } أي الأمر الهائل البديع الرفيع { لآيات } أي دلالات واضحات على ما له من صفات الكمال في عدم غرقه وفي سيرة إلى البلاد الشاسعة، والأقطار البعيدة، وفي كون سيره ذهاباً وإياباً تارة بريحين، وأخرى بريح واحدة، وفي إنجاء أبيكم نوح عليه السلام ومن أراد الله من خلقه به وإغراق غيرهم من جميع أهل الأرض، وفي غير ذلك من شؤونه، وأموره وفنونه، ونعمه وفتونه وإن كان أكثر ذلك قد صار مألوفاً لكم فجهلتم أنه من خوارق العادات، ونواقض المطردات، وعلم من ختام التي قبلها أن المراد - بقوله جامعاً لجميع الإيمان الذي هو نصفان: نصف صبر، ونصف شكر، وذلك تمام صفة المؤمن مظهراً موضع لك أو لكم - ما أفاد الحكم بكل من شاركه صلى الله عليه وسلم في الوصفين المذكورين: { لكل صبار } إدامة الفكر في هذه النعم واستحضارها في الشدة والرخاء، وأنها من عند الله، وأنه لا يقدر عليها سواه، والإذعان له في جميع ذلك، حفظاً لما دل عليه العقل من أخذ الميثاق بالشكر، وأن لا يصرف الحق إلى غير أهله، فيلزم عليه الإساءة إلى المحسن { شكور * } عليه مبالغ في كل من الصبر والشكر، وعلم من صيغة المبالغة في كل منهما أنه لا يعرف في الرخاء من عظمة الله ما كان يعرفه في الشدة إلا من طبعهم الله على ذلك ووفقهم له وأعانهم عليه بحفظ العهد وترك النقض جرياً مع ما تدعو إليه الفطرة الأولى السليمة، وقليل ما هم، وقال الرازي في اللوامع: وكيفما كان فالصبر هو الثبات في مراكز العبودية، والشكر رؤية النعمة من المنعم الحق وصرف نعمه إلى محابّه.
ولما كانوا يسارعون إلى الكفر بعد انفصالهم من هذه الآية العظمية، وإلباسهم ههذ النعمة الجسيمة، التي عرفتهم ما تضمنته الآية السالفة من حقيته وحده وعلوه وكبره وبطلان شركائهم، أعرض عنهم وجه الخطاب لأنهم لم يرجعوا بعد الوضوح إيذاناً باستحقاق شديد الغضب والعذاب، فقال معجباً عاطفاً على ما تقديره: وأما غير الصبار الشكور فلا يرون ما في ذلك من الآيات في حال رخائهم: { وإذا غشيهم } أي علاهم وهم فيها حتى صار كالمغطى لهم، لأنه منعهم من أن تمتد أبصارهم كما كانت { موج } أي هذا الجنس، ولعله أفرده لأنه لشدة اضطرابه وإيتانه شيئاً في أثر شيء متتابعاً بركب بعضه كأنه شيء واحد، وأصله من الحركة والازدحام { كالظلل } أي حتى كان كأطراف الجبال المظلمة لمن يكون إلى جانبها، وللإشارة إلى خضوعهم غاية الخضوع كرر الأسم الأعظم فقال: { دعوا الله } أي مستحضرين لما يقدر عليه الإنسان من كماله بجلاله وجماله، عالمين بجميع مضمون الآية السالفة من حقيته وعلوه وكبره وبطلان ما يدعون من دونه { مخلصين له الدين } لا يدعون شيئاً سواه بألسنتهم ولا قلوبهم لما اضطرهم إلى ذلك من آيات الجلال، وقسرهم عليه من العظمة والكمال، واقتضى الحال في سورة الحكمة حذف ما دعوا به لتعظيم الأمر فيه لما اقتضاه من الشدائد لتذهب النفس فيه كل مذهب.
ولما كان القتل بالسيف أسهل عندهم من أن يقال عنهم: إنهم أقروا بشيء هم له منكرون لأجل الخوف خوف السبة بذلك والعار حتى قال من قال: لولا أن يقال إني ما أسلمت إلا جزعاً من الموت فيسب بذلك بني من بعدي لأسلمت. بين لهم سبحانه أنهم وقعوا بما فعلوا عند خوف الغرق في ذلك، وأعجب منه رجوعهم إلى الكفر عند الإنجاء، لما فيه مع ذلك من كفران الإحسان الذي هو عندهم من أعظم الشنع، فقال دالاً بالفاء على قرب استحالتهم وطيشهم وجهالتهم: { فلما نجّاهم } أي خلصهم رافعاً لهم، تنجية لهم عظيمة بالتدريج من تلك الأهوال { إلى البر } نزلوا عن تلك المرتبة التي أخلصوا فيها الدين، وتنكبوا سبيل المفسدين وانقسموا قسمين { فمنهم } أي تسبب عن نعمة الإنجاء وربط بها إشارة إلى أن المؤثر لهذا الانقسام إنما هو الاضطرار إلى الإخلاص في البحر والنجاة منهم أنه كان منهم { مقتصد } متكلف للتوسط والميل للإقامة على الطريق المستقيم، وهو الإخلاص في التوحيد الذي ألجأه إليه الاضطرار، وهم قليل - بما دل عليه التصريح بالتبعيض، ومنهم جاحد للنعمة ملق لجلباب الحياة في التصريح بذلك، وهو الأكثر - كما مضت الإشارة إليه ودل عليه ترك التصريح فيه بالتبعيض، وما يقتصد إلا كل صبار شكور، إما حالاً وإما مالاً { وما يجحد } وخوّف الجاحد بمظهر العظمة التي من شأنها الانتقام، فقال صارفاً القول إليه: { بآياتنا } أي ينكرها مع عظمها ولا سيما بعد الاعتراف بها { إلا كل ختار } أي شديد الغدر عظيمه لما نقض من العهد الهادي إليه العقل والداعي إليه الخوف { كفور * } أي عظيم الكفر لإحسان من هو متقلب في نعمه، في سره وعلنه، وحركاته وسكناته، ولا نعمة إلا وهي منه، ومن هنا جاءت المبالغة في الصفتين، وعلم أنهما طباق ومقابلة لختام التي قبلها، وأن الآية من الاحتباك: دل ذكر المقتصد أولاً على "ومنهم جاحد" ثانياً، وحصر الجحود في الكفور ثانياً على حصر الاقتصاد في الشكور أولاً، قال البغوي: قيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين هرب رضي الله عنه عام الفتح إلى البحر فجاءهم ريح عاصف - يعني: فقال الركاب على عادتهم: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم ههنا شيئاً - فقال عكرمة رضي الله عنه: لئن أنجاني الله من هذا لأرجعن إلى محمد ولأضعن يدي في يده فسكنت الريح، فرجع عكرمة رضي الله عنه إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه، وقال مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر، وقال الكلبي: مقتصد في القول أي من الكفار، لأن بعضهم كان أشد قولاً وأعلى في الافتراء من بعض.