خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً
٢٥
وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً
٢٦
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً
٢٧
-الأحزاب

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكرهم سبحانه نعمته بما أرسل على أعدائهم من جنوده، وبين أحوال المنافقين والصادقين وما له في ذلك من الأسرار، وختم بهاتين الصفتين، قال مذكراً بأثرهما فيما خرقه من العادة بصرف الأعداء على كثرتهم وقوتهم على حالة لا يرضاها لنفسه عاقل، عاطفاً على قوله في أول السورة والقصة { فأرسلنا }: { ورد الله } أي بما له من صفات الكمال { الذين كفروا } أي ستروا ما دلت عليه شموس عقولهم من أدلة الوحدانية وحقية الرسالة، وهم من تحزب من العرب وغيرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم عن المدينة ومضايقة المؤمنين، حال كونهم { بغيظهم } الذي أوجب لهم التحزب ثم الذي أوجب لهم التفرق من غير طائل حال كونهم { لم ينالوا خيراً } لا من الدين ولا من الدنيا، بل خذلهم بكل اعتبار.
ولما كان الرد قد يكون بسبب من عدوهم، بين أن الأمر ليس كذلك فقال: { وكفى الله } أي العظيم بقوته وعزته عباده، ودل على أنه ما فعل ذلك إلا لأجل أهل الإخلاص فقال: { المؤمنين القتال } بما ألقى في قلوبهم من الداعية للانصراف بالريح والجنود من الملائكة وغيرهم منهم نعيم بن مسعود كما تقدم.
ولما كان هذا أمراً باهراً، أتبعه ما يدل على أنه عنده يسير فقال: { وكان الله } أي الذي له كل صفة كمال دائماً أزلاً وأبداً { قوياً } لا يعجزه شيء { عزيزاً } يغلب كل شيء.
ولما أتم أمر الأحزاب، أتبعه حال الذين ألّبوهم، وكانوا سبباً في إيتانهم كحيي بن أخطب والذين مالأوهم على ذلك، ونقضوا ما كان لهم من عهد، فقال: { وأنزل الذين ظاهروهم } أي عاونوا الأحزاب، ثم بينهم بقوله مبغضاً: { من أهل الكتاب } وهم بنو قريظة ومن دخل معهم في حصنهم من بني النضير كحيي، وكان ذلك بعد إخراج بني قنيقاع وبني النضير { من صياصيهم } أي حصونهم العالمية، جمع صيصية وهي كل ما يتمنع به من قرون البقر وغيرها مما شبه بها من الحصون.
ولما كان الإنزال من محل التمنع عجباً، وكان على وجوه شتى، فلم يكن صريحاً في الإذلال، فتشوفت النفس إلى بيان حاله، بين أنه الذل فقال عاطفاً بالواو ليصلح لما قبل ولما بعد: { وقذف في قلوبهم الرعب } أي بعد الإنزال كما كان قذفه قبل الإنزال، فلو قدم القذف على الإنزال لما أفاد هذه الفؤائد، ولا اشتدت ملاءمة ما بعده للإنزال.
ولما ذكر ما أذلهم به، ذكر ما تأثر عنه مقسماً له فقال: { فريقاً } فذكره بلفظ الفرقة ونصبه ليدل بادئ بدء على أنه طوع لأيدي الفاعلين: { تقتلون } وهم الرجال، وكان نحو سبعمائة. ولما بدأ بما يدل على التقسيم مما منه الفرقة، وقد أعظم الأثرين الناشئين عن الرعب، أولاه الأثر الآخر ليصير الأثران المحبوبان محتوشين بما يدل على الفرقة فقال: { وتأسرون فريقاً } وهم الذراري والنساء، ولعله أخر الفريق هنا ليفيد التخيير في أمرهم، وقدم في الرجال لتحتم القتل فيهم.
ولما ذكر الناطق بقسميه، ذكر الصامت فقال: { وأورثكم أرضهم } من الحدائق وغيرها؛ ولما هم خص بقوله: { وديارهم } لأنه يحامي عليها ما لا يحامي على غيرها؛ ثم عم بقوله: { وأموالهم } مما تقدم ومن غيره من النقد والماشية والسلاح والأثاث وغيرها، فقسم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان ولفارسه سهم كما للراجل ممن ليس له فرس, وأخرج منها الخمس, فعلى سنتها وقعت المقاسم ومضت السنة في المغازي، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من سباياهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة. إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فتلبثت قليلاً، ثم أسلمت، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت: يا رسول الله! بل تتركني في ملكك فهو أخف عليّ وعليك، فتركها حتى توفي عنها في ملكه رضي الله عنها.
ولما كانت هذه غزوة طار رعبها في الآفاق، وأذلت أهل الشرك من الأميين وغيرهم على الإطلاق، ونشرت ألوية النصر فخفقت أعلامها في جميع الآفاق، وأغمدت سيف الكفر وسلت صارم الإيمان للرؤوس والأعناق، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبصر الناس بالحروب، وأنفذهم رأياً لما له من الثبات عند اشتداد الكروب:
"الآن نغزوهم ولا يغزونا" ، قال تعالى: { وأرضاً لم تطؤها } أي تغلبوا عليها بتهيئتكم للغلبة عليها وإعطائكم القوة القريبة من فتحها، وهي أرض خيبر أولاً، ثم أرض مكة ثانياً ثم أرض فارس والروم وغيرهما مما فتحه الله بعد ذلك، وكان قد حكم به في هذه الغزوة حين أبرق تلك البرقات للنبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق، فأراه في الأولى اليمن، وفي الأخرى فارس، وفي الأخرى الروم.
ولما كان ذلك أمراً باهراً, سهله بقوله: { وكان الله } أي أزلاً وأبداً بما له من صفات الكمال { على كل شيء } هذا وغيره { قديراً } أي شامل القدرة.