خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ
١٣
إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
١٤
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
١٥
إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ
١٦
وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ
١٧
-فاطر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكر سبحانه اختلاف الذوات الدال على بديع صنعه، أتبعه تغييره المعاني آية على بليغ قدرته، فقال في موضع الحال من فاعل "خلقكم" إشارة إلى أن الله تعالى صور آدم حين خلق الأرض قبل أن يكون ليل أو نهار ثم نفخ فيه الروح آخر يوم الجمعة بعد أن خلق النور يوم الأربعاء، فلم يأت على الإنسان حين من الدهر وهو مقدار حركة الفلك إلا وهو شيء مذكور: { يولج } أي يدخل على سبيل الجولان { الّيل في النهار } فيصير الظلام ضياء.
ولما كان هذا الفعل في غاية الإعجاب، وكان لكثرة تكراره قد صار مألوفاً فغفل عما فيه من الدلالة على تمام القدرة: نبه عليه بإعادة الفعل فقال: { ويولج النهار في الّيل } فيصير ما كان ضياء ظلاماً، وتارة يكون التوالج بقصر هذا وطول هذا، فدل كل ذلك على أنه تعالى فاعل بالاختيار.
ولما ذكر الملوين ذكر ما ينشأ عنهما فقال: { وسخر الشمس والقمر } ثم استأنف قوله: { كل } أي منهم { يجري } ولما كان مقصود السورة تمام القدرة، والسياق هنا لقسر المتنافرات على ما يزيد، ولذلك ختم الآية بالملك الناظر إلى القسر والقهر لم يصلح لهذا الموضع حرف الغاية فقال: { لأجل } أي لأجل أجل { مسمى } مضروب له لا يقدر أن يتعداه، فإذا جاء ذلك الأجل غرب، هكذا كل يوم إلى أن يأتي الأجل الأعظم، فيختل جميع هذا النظام بأمر الملك العلام، ويقيم الناس ليوم الزحام، وتكون الأمور العظام.
ولما دل سبحانه على أنه الفاعل المختار القادر على كل ما يريد بما يشاهده كل أحد في نفسه وفي غيره، وختم بما تتكرر مشاهدته في كل يوم مرتين، أنتج ذلك قطعاً قوله معظماً بأداة البعد وميم الجمع: { ذلكم } أي العالي المقدار الذي فعل هذه الأفعال كلها { الله } أي الذي له صفة كمال؛ ثم نبههم على أنه لا مدبر لهو سواه بخبر آخر بقوله: { ربكم } أي الموجد لكم من العدم المربي بجميع النعم لا رب لكم سواه؛ ثم استأنف قوله: { له } أي وحده { الملك } أي كله وهو مالك كل شيء { والذين تدعون } أي دعاء عبادة، ثم بيّن منزلتهم بقوله: { من دونه } أي من الأصنام وغيرها وكل شيء فهو دونه سبحانه { ما يملكون } أي في هذا الحال الذي تدعونهم فيه وكل حال يصح أن يقال فيه لكم هذا الكلام؛ وأغرق في النفي فقال: { من قطمير * } وهو كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: لفافة النواة، وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها، كناية عن أدنى الأشياء، فكيف بما فوقه وليس لهم شيء من الملك، فالآية من الاحتباك: ذكر الملك أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، والملك ثانياً دليلاً على حذفه أولاً؛ ثم بين ذلك بقوله: { إن تدعوهم } أي المعبودات من دونه دعاء عبادة او استغاثة { لا يسمعوا } أي بحس السمع في وقت من الأوقات { دعاءكم } لأنهم جماد { ولو سمعوا } في المستقبل { ما استجابوا لكم } لأنهم إذ ذاك يعلمون أن إجابتكم لا ترضي الله، وهم مما أبى أن يحمل الأمانة ويخون فيها بالعمل بغير ما يرضي الله سبحانه، أو يكون المعنى: ولو فرض أنه يوجد لهم سمع، أو ولو كانوا سامعين - ليدخل فيه من عبد من الأحياء - ما لزم من السماع إجابة، لأنه لا ملازمة بين السمع والنطق، ولا بين السمع والنطق مع القدرة على ما يراد من السامع، فإن البهائم تسمع وتجيب، والمجيبون غيره يجيبون ولا قدرة لهم على أكثر ما يطلب منهم.
ولما ذكر ما هو على سبيل الفرض، ذكر ما يصير إليه بينهم وبينهم الأمر فقال: { ويوم القيامة } أي حين ينطقهم الله { يكفرون بشرككم } أي ينكرونه ويتبرؤون منه. ولما كان التقدير: قد أنبأكم بذلك الخبير، وكانوا لا يقرون بذلك ولا يفهمونه حق فهمه ولا يعملون به، صرف الخطاب عنهم إلى من له الفهم التام والطاعة الكاملة، فقال عاطفاً على هذا الذي هدى إلى تقديره السياق: { ولا ينبئك } أي إنباء بليغاً عظيماً على هذا الوجه بشيء من الأشياء، { مثل خبير * } أي بالغ الخبر، فلا يمكن الطعن في شيء مما أخبر به، وأما غيره فلا يخبر خبراً إلا يوجه إليه نقص.
ولما اختص سبحانه بالملك ونفى عن شركائهم النفع، أنتج ذلك قوله: { يا أيها الناس } أي كافة { أنتم } أي خاصة { الفقراء } أي لأنكم لاتساع معارفكم وسريان أفكاركم وانتشار عقولكم تكثر نوازغكم وتتفرق دواعيكم فيعظم احتياجكم لشدة ضعفكم وعجزكم عظماً يعد معه احتياج غيركم عدماً، ولو نكر الخبر لم يفد هذا المعنى { إلى الله } أي الذي له جميع الملك؛ قال القشيري: والفقر على ضربين: فقر خلقة، وفقر صفة، فالأول عام فكل حادث مفتقر إلى خالقه في أول حال وجوده ليبديه وينشيه، وفي ثانية ليديمه ويبقيه، وأما فقر الصفة فهو التجرد، ففقر العوام التجرد من المال، وفقر الخواص التجرد من الإعلال، فحقيقة الفقر المحمود تجرد السر عن المعلولات.
ولما ذكر العبد بوصفه الحقيقي، أتبعه ذكر الخالق باسمه الأعظم على قرب العهد بذكر الإشارة إلى الجهة التي بها وصف بما يذكر، وهي الإحاطة بأوصاف الكمال فقال: { والله هو } أي وحده { الغني } أي الذي لا يتصور أن يحتاج لا إليكم ولا إلى عبادتكم ولا إلى شيء أصلاً. ولما كان الغنى من الخلق لا يسع غناه من يقصده، وإن وسعهم لم يسعهم عطاؤه لخوف الفقر أو لغير ذلك من العوارض، ولا يمكنه عموم النعمة في شيء من الأشياء فلا ينفعك من نوع ذم، وكان الحمد كما قال الحرالي في شرح الأسماء: حسن الكلية بانتهاء كل أمر وجزء، وبعض منها إلى غاية تمامه، فمتى نقص جزء من كل عن غاية تمامه لم يكن ذلك الكل محموداً، ولم يكن قائمه حميداً، وكان الله قد خلق كل شيء كما ينبغي، لم يعجل شيئاً عن إناه وقدره، وكان الذم استنقاضاً يلحق بعض الأجزاء عند من لم يرها في كلها ولا رأى كلها، فكان الذم لذلك لا يقع إلا متقيداً متى أخذ مقتطعاً من كل، والحمد لا يقع إلا في كل لم يخرج عنه شيء, فلا حمد في بعض ولا ذم في كل, ولا حمد إلا في كل، ولذلك قال الغزالي: الحميد من العباد من حمدت عوائده وأخلاقه وأعماله كلها من غير مثنوية. وكان سبحانه قد أفاض نعمه على خلقه، وأسبغها ظاهرة وباطنة، وجعل لهم قدرة على تناولها. لا يعوق عنه إلا قدرته { وما كان عطاء ربك محظوراً } وكان لا ينقص ما عنده، كان إعطاؤه حمداً ومنعه حمداً، لأنه لا يكون مانعاً لغرض بل لحكمة تدق عن الأفكار فقال: { الحميد * } أي كل شيء بنعمته عنده والمستحق للحمد بذاته، فأنتج ذلك قطعاً تهديداً لمن عصاه وتحذيراً شديداً: { إن يشأ يذهبكم } أي جميعاً { ويأت بخلق جديد * } أي غيركم لأنه على كل شيء قدير { وما ذلك } أي الأمر العظيم من الإذهاب والإتيان { على الله } المحيط بجميع صفات الكمال خاصة { بعزيز * } أي بممتنع ولا شاق، وهو محمود عند الإعدام كما هو محمود عند الإيجاد.