خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُ
٢١
وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَحْيَآءُ وَلاَ ٱلأَمْوَاتُ إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ
٢٢
إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ
٢٣
إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ
٢٤
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ وَبِٱلزُّبُرِ وَبِٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ
٢٥
ثُمَّ أَخَذْتُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
٢٦
-فاطر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان الظلام ينشأ عن الظلال، وهو نسخ النور، قدمه فقال مقدماً مثال الخير لأن الرحمة سبقت الغضب: { ولا الظل } أي ببرده الذي هو مرجع المؤمن في الآخرة { ولا الحرور * } أي بوهجها، وهي مرجع الكافر، قال البغوي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي الريح الحارة بالليل، وكذا قال في القاموس وزاد: وقد يكون بالنهار وحر الشمس والحر الدائم والنار، فانتفى حكم الطبائع قطعاً.
ولما كان المظهر لذلك كله الحياة، قدمها فقال مثالاً آخر للمؤمنين، ولذلك أعاد الفعل وهو فوق التمثيل بالأعمى والبصير، لأن الأعمى يشارك البصير في بعض الإدراكات، وصار للمؤمن والكافر مثالان ليفيد الأول نفي استواء الجنس بالجنس مع القبول للحكم على الأفراد، والثاني بالعكس وهو للنفي في الأفراد مع القبول للجنس: { وما يستوي الأحياء } أي لأنه منهم الناطق والأعجم، والذكي والغبي، والسهل والصعب، فلا يكاد يتساوى حيان في جميع الخلال { ولا الأموات } أي الذين هم مثال للكافرين في صعوبة الموت وسهولته والبلى وغيره مما يخفى ولا يقر به الكفار من الشقاوة والسعادة.
ولما كان ما ذكر على هذا الوجه - من وضوح الدلالة على الفعل بالاختيار وعلى ضلال من أشرك به شيئاً لأنه لا يشابهه شيء - بمكان ليس معه خفاء، ومن الإحكام بحيث لا يدانيه كلام يعجب السامع ممن يأباه، فقال مزيلاً عجبه مقرراً أن الخشية والقسوة إنما هما بيده، وأن الإنذار إنما هو لمن قضى بانتفاعه، مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم، مؤكداً رداً على من يرى لغيره سبحانه فعلاً من خير أو شر: { إن الله } أي القادر على المفاوتة بين هذه الأشياء وعلى كل شيء بما له من الإحاطة بصفات الكمال، وعبر بالفعل إشارة إلى القدرة على ذلك في كل وقت أراده سبحانه فقال: { يسمع من يشاء } أي فيهديه ولو لم يكن له قابلية في العادة كالجمادات، ويصم ومن يشاء فيعميه وينكسه ويرديه من أحياء القلوب والأرواح، وأموات المعاني والأشباح، والمعنى أن إسماعهم لو كان مستنداً إلى الطبائع لاستووا إما بالإجابة أو الإعراض لأن نسبة الدعوة وإظهار المعجزة إليهم على حد سواء، فالآية تقرير آية { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب }.
ولما كان المعرض قد ساوى الميت في حاله التي هي عدم الانتفاع بما يرى ويسمع من الخوارق، فكان كأنه ميت، قال معبراً بالأسمية تنبيهاً على عدم إثبات ذلك له صلى الله عليه وسلم: { وما أنت } أي بنفسك من غير إقدار الله لك، وأعرق في النفي فقال: { بمسمع } أي بوجه من الوجوه { من في القبور * } أي الحسية والمعنوية، إسماعاً ينفعهم بل الله يسمعهم إن شاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، والآية دليل على البعث.
ولما كان هذا خاصة الإله، أشار إلى نفيه عنه مقتصراً على وصف النذارة، إشارة إلى أن أغلب الخلق موتى القلوب، فقال مؤكداً للرد على من يظن أن النذير يقدر على هداية أو غيرها إلا بإقداره { إن } أي ما { أنت إلا نذير * } أي تنبه القلوب الميتة بقوارع الإنذار، ولست بوكيل يقهرهم على الإيمان.
ولما كان صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، وكان الاقتصار على هذا الوصف ربما أوهم غير ذلك، أتبعه قوله بياناً لعظمته صلى الله عليه وسلم بالالتفات إلى مظهر العظمة لأن عظمة الرسول من عظمة المرسل فنذارته رحمة: { إنا } أي بما لنا من العظمة { أرسلناك } أي إلى هذه الأمة إرسالاً مصحوباً { بالحق } أي الأمر الكامل في الثبات الذي يطابقه الواقع، فإن من نظر إلى كثرة ما أوتيته من الدلائل علم مطابقة الواقع لما تأمر به، والتقدير بالمصدر يفهم أن الرسالة حق، وكلاًّ من المرسل والرسول محق { بشيراً } أي لمن أطاع { ونذيراً } أي لمن عصى، والعطف بالواو للدلالة على العراقة في كل من الصفتين.
ولما كان مما يسهل القياد ويضعف الجماح التأسية، قال مؤكداً دفعاً لاستبعاد الإرسال إلى جميع الأمم: { وإن } أي والحال أنه ما { من أمة } من الأمم الماضية { إلا خلا فيها نذير * } أرسلناه إليهم بشيراً ونذيراً إما بنفسه وإما بما أبقى في أعقابهم من شرائعه من أقواله وأفعاله ورسومه مع ما لهم من العقول الشاهدة بذلك، والنذارة دالة على البشارة، واقتصر عليها لأنها هي التي تقع بها التسلية لما فيها من المشقة، ولأن من الأنبياء الماضين عليهم السلام من تمحضت دعوته للنذارة لأنه لم ينتفع أحد ببشارته لعدم اتباع أحد منهم له.
ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد الأسف على إبائهم رحمة لهم وخوفاً من أن يكون ذلك لتقصير في حاله، وكان التقدير: فإن يصدقوك فهو حظهم في الدنيا والآخرة، عطف عليه تأسية له وتسلية قوله: { وإن يكذبوك فقد } أي فتسل لأنه قد { كذب الذين } ولما كان المكذبون بعض الناس، فلزم لذلك أن يكونوا في بعض الزمان، دل على ذلك بالجار فقال: { من قبلهم } أي ما أتتهم به رسلهم عن الله.
ولما كان قبول الرسل لما جاءهم عن الله ونفى التقصير في الإبلاغ عنهم دالاً على علو شأنهم وسفول أمر المكذبين من الأمم، وكل ذلك دالاًّ على تمام قدرة الله تعالى في المفاوتة بين الخلق، قال دالاً على أمري العلو والسفول استئنافاً جواباً لمن كأنه قال: هل كان تكذيبهم عناداً او لنقص في البيان: { جاءتهم } أي الأمم الخالية { رسلهم بالبينات } أي الآيات الواضحات في الدلالة على صحة الرسالة. ولما كان التصديق بالكتاب لازماً لكل من بلغه أمره، وكانت نسبة التكذيب إلى جميع الأمم أمراً معجباً، كان الأمر حرياً بالتأكيد لئلا يظن أنهم ما كذبوا إلا لعدم الكتاب، فأكد بإعادة الجار فقال: { وبالزبر } أي الأمور المكتوبة من الصحف ونحوها من السنن والأسرار { وبالكتاب } أي جنس الكتاب كالتوراة والإنجيل { المنير * } أي الواضح في نفسه الموضح لطريق الخير والشر كما أنك أتيت قومك بمثل ذلك وإن كان طريقك أوضح وأظهر، وكتابك أنور وأبهر وأظهر وأشهر.
ولما سلاه، هدد من خالفه وعصاه بما فعل في تلك الأمم فقال، صارفاً القول إلى الإفراد دفعاً لكل لبس، مشيراً بأداة التراخي إلى أن طول الإمهال ينبغي أن يكون سبباً للإنابة لا للاغترار بظن الإهمال: { ثم أخذت } أي بأنواع الأخذ { الذين كفروا } أي ستروا تلك الآيات المنيرة بعد طول صبر الرسل عليهم ودعائهم لهم. ولما كان أخذ من قص أخباره منهم عند العرب شهيراً، وكان على وجوه من النكال معجبة، سبب عنه السؤال بقوله: { فكيف كان نكير * } أي إنكاري عليهم، أي أنه إنكار يجب السؤال عن كيفية لهوله وعظمه، كما قال القشيري: ولئن أصروا على سنتهم في الغي فلن تجد لسنتنا تبديلاً في الانتقام والخزي.