خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ
٢٥
قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
٢٦
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ
٢٧
وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ
٢٨
إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ
٢٩
-يس

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أقام الأدلة ولم يبق لأحد تخلف عنه علة، صرح بما لوح إليه من إيمانه، فقال مظهراً لسروره بالتأكيد وقاطعاً لما يظنونه من أنه لا يجترئ على مقاطعتهم كلهم بمخالفتهم في أصل الدين: { إني آمنت } أي أوقعت التصديق الذي لا تصديق في الحقيقة غيره بالرسل مؤمناً لهم من أن أدخل عليهم نوع تشويش من تكذيب أو غيره. ولما أرشدهم بعموم الرحمانية تلويحاً، صرح لهم بما يلزمهم شكره من خصوص الربوبية فقال: { بربكم } أي بسبب الذي لا إحسان عندكم إلا منه قد نسيتم ما له لديكم من الربوبية والرحمانية والإبداع، وزاد في مصارحتكم إظهاراً لعدم المبالاة بهم بقوله: { فاسمعون } أي سماعاً إن شئتم أشعتموه، وإن شئتم كتمتموه - بما دل عليه حذف الياء وإثباتها، فلا تقولوا بعد ذلك: ما سمعناه، ولو سمعناه لفعلنا به. فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مثل صاحب يس هذا في هذه الأمة عروة بن مسعود الثقفي حيث بادى قومة الإسلام، ونادى على عليته بالأذان، فرموه بالسهام فقتلوه.
ولما كان من المعلوم - بما دل عليه من صلابتهم في تكذيبهم الرسل وتهديدهم مع ما لهم من الآيات - أنهم لا يبقون هذا الذي هو من مدينتهم وقد صارحهم بما إن أغضوا عنه فيه انتقض عليهم أكثر أمرهم، لم يذكره تعالى عدّاً له عداد ما لا يحتاج إلى ذكره، وقال جواباً لمن تشوف إلى علم حاله بعد ذلك بقوله إيجازاً في البيان ترغيباً لأهل الإيمان: { قيل } أي له بعد قتلهم إياه، فبناه للمفعول وحذفه لأن المقصود القول لا قائله والمقول له معلوم: { ادخل الجنة } لأنه شهيد، والشهداء يسرحون في الجنة حيث شاؤوا من حين الموت.
ولما كان الطبع البشري داعياً إلى محبة الانتقام ممن وقع منه الأذى بين سبحانه أن الأصفياء على غير ذلك الحال، فقال مستأنفاً: { قال يا ليت قومي } أي الذين فيهم قوة لما يراد منهم، فلو كانت قوتهم على الكفار لكانت حسنة { يعلمون * } ولما أريد التصريح بوقوع الإحسان إليه، حل المصدر إلى قوله: { بما غفر لي } أي أوقع الستر لما كنت مرتكباً له طول عمري من الكفر به بإيمان في مدة يسيرة { ربي } أي الذي أحسن إلي في الأخرى بعد إحسانه في الدنيا { وجعلني } ولما كان الأنس أعظم فوز، عدل عن أن يقول "مكرماً" إلى قوله: { من المكرمين * } أي الذين أعطاهم الدرجات العلى بقطعهم جميع أعمارهم في العبادة، فنصح لقومه حياً وميتاً يتمنى علمهم بإكرامه تعالى له ليعملوا مثل عمله فينالوا ما ناله، وفي قصته حث على المبادرة إلى مفارقة الأشرار واتباع الأخيار، والحلم عن أهل الحهل وكظم الغيظ, والتلطف في خلاص الظالم من ظلمه, وأنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله وإن كان محسناً، وهذا كما وقع للأنصار رضي الله عنهم في المبادرة إلى الإيمان مع بعد الدار والنسب، وفي قول من استشهد منهم في بئر معونة - كما رواه البخاري في المغازي عن أنس رضي الله عنه: بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا، وفي غزوة أحد كما في السيرة وغيرها لما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال تبارك وتعالى: فأنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } الآيات في سورة آل عمران، وفي التمثيل بهذه القصة إشارة إلى أن في قريش من ختم بموته على الكفر ولم ينقص ما ضرب له من الأجل, فهو سبحانه يؤيد هذا الدين بغيرهم لتظهر قدرته وليستوفي الآجال أولئك، ثم يقبل بقلوب غيرهم، فتظهر مع ذلك حكمته - إلى غير ذلك من ينابيع المعاني، وثابت المباني.
ولما كان سبحانه قد جعل أكثر جند هذا النبي الكريم من الملائكة فأيده بهم في حالتي المسمالمة والمصادمة وحرسه ممن أراده في مكة المشرفة وبعدها بهم، ذكره ذلك بقوله عاطفاً على ما تقديره: وما أنزلنا على قومه قبل قتلهم له من جند من السماء يحول بينهم وبين ذلك كما فعلنا بك إذ أراد أبو جهل قتلك بالصخرة وأنت ساجد عند البيت وغيره بغير ذلك مما هو مفصل في السير، وأما بعد الهجرة ففي غزوة الأحزاب إذ أرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً ردتهم خائبين، وفي غزوة أحد وبدر وحنين وغير ذلك: { وما أنزلنا } بما لنا من العظمة { على قومه } أي صاحب يس { من بعده } أي بعد قتله، وأعرق في النفي بقوله: { من جند } وحقق المراد بقوله: { من السماء } أي لإهلاكهم، وحقق أن إرسال الجنود السماوية أمر خص به صلى الله عليه وسلم لأنه لحكم ترجع إلى النصرة بغير الاستئصال فإنهم يتبدون في صور الآدميين ويفعلون أفعالهم، وأما عذاب الاستئصال فإن السنة الإلهية جرت بأنه لا يكون بأكثر من واحد من الملائكة لأنه أدل على الاقتدار، فلذلك قال تعالى: { وما كنا منزلين * } أي ما كان ذلك من سنتنا، وما صح في حكمتنا أن يكون عذاب الاستئصال بجند كثير { إن } أي ما { كانت } أي الواقعة التي عذبوا بها { إلا صيحة } صاحها بهم جبريل عليه السلام فماتوا عن آخرهم؟ وأكد أمرها وحقق وحدتها بقوله: { واحدة } أي لحقارة أمرهم عندنا، ثم زاد في تحقيرهم ببيان الإسراع في الإهلاك بقوله: { فإذا هم خامدون * } أي ثابت لهم الخمود ما كأنهم كانت لهم حركة يوماً من الدهر، ومن المستجاد في هذا قول أبي العلاء أحمد ابن سليمان المعري:

وكالنار الحياة فمن رماد أواخرها وأولها دخان