ولما كان التقدير: أعرضوا لأن الإعراض قد صار لهم خلقاً لا يقدرون على
الانفكاك من أسره، عطف عليه قوله إشارة إليه: { وما تأتيهم } وعمم بقوله: { من آية }
وبين قوله: { من آيات } ولفت الكلام للتذكير بالإنعام تكذيباً لهم في أنهم أشكر الناس
للمنعم فقال: { ربهم } أي المحسن إليهم { إلا كانوا عنها } أي مع كونها من عند من
غمرهم إحسانه وعمهم فضله وامتنانه { معرضين * } أي دائماً إعراضهم.
ولما كانت الرحمة بالرزق والنصر إنما تنال بالرحمة للضعفاء "هل ترزقون
وتنصرون إلا بضعفائكم" "إنما يرحم الله من عباده الرحماء" وكان الإنفاق خلق
المؤمنين، قال مبيناً أنهم انسلخوا عن الإنسانية جملة فلا يخافون ما يجوز وقوعه من
العذاب، ولا يرجون ما يجوز حلوله من الثواب: { وإذا قيل لهم } أي من أيّ قائل
كان: { أنفقوا } أي على من لا شيء، شكراً لله على ما أنجاكم منه ونفعكم به بنفع
خلقه الذين هم عياله، وبين أنهم يبخلون بما لا صنع لهم فيه ولم تعمله أيديهم بل
ببعضه فقال: { مما رزقكم } وأظهر ولم يضمر إشارة إلى جلالة الرزق بجلالة معطيه،
وزاد في تقريعهم بجعل ذلك الظاهر اسم الذات لأنه لا ينبغي أن يكون عطاء العبد على
قدر سيده فقال: { الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { قال } وأظهر تبكيتاً لهم
بالوصف الحامل لهم على البخل فقال: { الذين كفورا } أي ستروا وغطوا ما دلتهم عليه
أنوار عقولهم من الخيرات { للذين آمنوا } أي القائلين بذلك المعتقدين له سواء كانوا هم
القائلين لهم أو غيرهم منكرين عليهم استهزاء بهم عادلين عما اقتضى السؤال عن ذكر
الإنفاق إلى ما يفيد التقريع بالفقر والحاجة إلى الأكل: { أنطعم } وعدلوا عن التعبير
بالماضي لئلا يقال لهم: قد تولى سبحانه إطعامه من حين خلقه إلى الآن، فقالوا: { من
لو يشاء } وأظهروا حدّاً له ومساعيه فقالوا: { الله } أي الذي له جميع العظمة كما زعمتم
في كل وقت يريده { أطعمه } أي لكنا ننظره لا يشاء ذلك فإنه لم يطعمهم لما نرى من
فقرهم فنحن أيضاً لا نشاء ذلك بموافقة لمراد الله فيه فتركوا التأدب مع الأمر وأظهروا
التأدب مع بعض الإرادة المنهي عن الجري معها والاستسلام لها، وما كفاهم حتى قالوا
لمن أرشدهم إلى الخير على طريق النتيجة لما تقدم: { إن } أي ما { أنتم إلا في ضلال }
أي محيط بكم { مبين * } أي في غاية الظهور، وما دروا أن الضلال إنما هو لهم لأنه
سبحانه إنما جعل إطعام بعض خلقه بلا واسطة وبعضهم بواسطة امتحاناً منه للمطيع
والعاصي والشاكر والكافر والجزع والصابر - وغير ذلك من حكمه.
ولما ذكر قلة خيرهم المستندة إلى تهكمهم باليوم الذي ذكروا به بالأمر بالاتقاء
والتعليل بترجي الرحمة، أتبعه حكاية استهزاء آخر منهم دال على عظيم جهلهم بتكذيبهم
بما يوعدون على وجه التصريح بذلك اليوم والتصوير له بما لا يسع من له أدنى مسكة
غير الانقياد له فقال: { ويقولون } أي عادة مستمرة مضمونة إلى ما تقدم مما يستلزم
تكذيبهم، وزادوا بالتعبير بأداة القرب في تقريعهم إشارة إلى أنكم زدتم علينا في التهديد
به والتقريب له حتى ظن أنه مصبحنا أو ممسينا ولم نحس منه عيناً ولا أثراً: { متى
هذا } وزادوا في الاستهزاء بتسميته وعداً فقالوا: { الوعد } أي الذي تهددوننا به تارة
تلويحاً وتارة تصريحاً، عجلوه لنا. وألهبوا وهيجوا زيادة في التكذيب بقولهم: { إن
كنتم صادقين * } ولما كان الحازم من لا يتهكم بشيء إلا إذا استعد له بما هو محقق
الدفع، بين سفههم بإتيانها بغتة وبأنه لا بد من وقوعها، وأنها بحيث تملأ السماوات
والأرض، فكأنه لا شيء فيهما غيرها بقوله: { ما ينظرون } أي مما يوعدون, ويجوز أن يكون بمعنى "ينتظرون" لأن استبطاءهم لها في صورة الانتظار وإن أرادوا به الاستهزاء, وجرد الفعل تقريباً لها لتحقق وقوعه { إلا صيحة } وبين حقارة شأنهم وتمام قدرته
بقوله: { واحدة } وهي النفخة الأولى المميتة، واقتصر في تأكيد الوحدة على هذا
بخلاف ما يأتي في المحيية لأنهم لا ينكرون أصل الموت { تأخذهم } أي تهلكهم؛
وبين غرورهم بقوله: { وهم يخصمون * } أي يختصمون أي يتخاصمون في معاملاتهم
على غاية من الغفلة، ولعله عبر بذلك إشارة بالإدغام اللازم عنه التشديد إلى تناهي
الخصام بإقامة أسبابه أعلاها وأدناها إلى حد لا مزيد عليه, لأن التاء معناه عند أهل الله انتهاء التسبيب إلى أدناه, وكل ذلك إشارة إلى أنهم في وقت الصعق يكونون في أعظم الأمان منها, لأن إعراضهم عنها بلغ إلى غاية لا مزيد عليها، ويشير الإدغام أيضاً إلى أن
خصومتهم في غاية الخفاء بالنسبة إلى الصيحة، وأن بلغت الخصومة النهاية في الشدة،
ولم يقرأ أحد "يختصمون" بالإظهار إشارة إلى أنه لا يقع في ذلك الوقت خصومه كاملة
حتى تكون ظاهرة بل تهلكهم الصيحة قبل استيفاء الحجج وإظهار الدلائل، فمنها ما كان
ابتدأ فيه اصحابه فأوجزوا - بما أشارت إليه قراءة حمزة بإسكان الخاء وكسر الصاد
مخففاً، ومنها ما كان متوسطاً وفيه خفاء وعلو - بما أشار إليه تشديد الصاد مع اختلاس
فتحة الخاء، ومنها ما هو كذلك وهو إلى الجلاء أقرب - بما أشار إليه إخلاص فتحة
الخاء مع تشديد الصاد، وأشار من قرأه كذلك مع كسر الخاء إلى التوسط مع الخفاء
والسفول، والله أعلم.
ولما كانت هذه النفخة المميتة، سبب عنها قوله: { فلا يستطيعون توصية }
أي أن يوجدوا الوصية في شيء من الأشياء، والاستفعال والتفعيل يدلان على أن الموت
ليس حين سماع أول الصوت بل عقبه من غير مهلة لتمام أمر ما. ولما كان ذلك ليس
نصّاً في نفي المشي قال: { ولا إلى أهلهم } أي فضلاً عن غيرهم { يرجعون * } بل
يموت كل واحد في مكانه حيث تفجأه الصيحة، وربنا أفهم التعبير بـ "إلى" أنهم يريدون
الرجوع فيخطون خطوة أو نحوها، وفي الحديث "لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان
ثوبهما بينهما فلا يبيعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا
يطعمها" .
ولما دل ذلك على الموت قطعاً، عقبه بالبعث، ولذلك عبر فيه بالنفخ فإنه
معروف في إفاضة الروح فقال: { ونفخ في الصور } أي الذي أخذتهم صيحته، وجهله
إشارة إلى أنه لا توقف له في نفس الأمر على نافخ معين ليكون عنه ما يريد سبحانه من
الأثر، بل من أذن له الله كائناً من كان تأثر عن نفخه ما ذكر، وإن كنا نعلم أن المأذون
له إسرافيل عليه السلام.
ولما كان هذا النفخ سبباً لقيامهم عنده سواء من غير تخلف، عبر سبحانه بما يدل
على التعقب والتسبب والفجاءة فقال: { فإذا هم } أي في حين النفخ { من الأجداث }
أي القبور المهيأة هي ومن فيها لسماع ذلك النفخ { إلى ربهم } أي الذي أحسن إليهم
بالتربية والتهيئة لهذا البعث فكفروا إحسانه، لا إلى غيره { ينسلون * } أي يسرعون
المشي مع تقارب الخطى بقوة ونشاط، فيا لها من قدرة شاملة وحكمة كاملة، حيث كان
صوت واحد يحيي تارة ويميت أخرى، كأنه ركب فيه من الأسرار أنه يكسب كل شيء
ضد ما هو عليه من حياة أو موت أو غشي أو إفاقة.