خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ
٥٢
إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ
٥٣
فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
٥٤
إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ
٥٥
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ
٥٦
-يس

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما تشوفت النفس إلى سماع ما يقولون إذا عاينوا ما كانوا ينكرون، استأنف قوله: { قالوا } أي الذين هم من أهل الويل من عموم الذين الذين قاموا بالنفخة وهم جميع من كان قد مات قبل ذلك. ولما كانوا عالمين بأن جزاء ما أسلفوا كل خزي، اتبعوه قولهم حاكياً سبحانه عبارتهم إذ ذاك لأنه أنكى لهم: { يا ويلنا } أي ليس بحضرتنا اليوم شيء ينادمنا إلا الويل، ثم استفهموا جرباً على عادتهم في الغباوة فقالوا مظهرين لضميرهم تخصيصاً للويل بهم لأنهم في معرض الشك: { من بعثنا من مرقدنا } عدوا مكانهم الذين كانوا به - مع ما كانوا فيه من عذاب البرزخ - مرقداً هنيئاً بالنسبة إلى ما انكشف لهم أنهم لا قوة من العذاب الأكبر، ووحدوه إشارة إلى أنهم على تكاثرهم وتباعدهم كانوا في القيام كنفس واحدة, ثم تذكروا ما كانوا يحذرونه من أن الله هو يبعثهم للجزاء الذي هو رحمة الملك لأهل مملكته، فقالوا مجيبين لأنفسهم استئنافاً: { هذا ما } أي الوعد الذي { وعد } أي به، وحذفوا المفعول تعميماً لأنهم الآن في حيز التصديق { الرحمن } أي العام الرحمة الذي رحمانيته مقتضية ولا بد للبعث لينصف المظلوم من ظالمه، ويجازي كلاًّ بعمله من غير حيف، وقد رحمنا بإرسال الرسل إلينا بذلك، وطال ما أنذرونا حلوله، وحذرونا صعوبته وطوله. ولما كان التقدير: فصدق الرحمن، عطف عليه قوله: { وصدق } أي في أمره { المرسلون * } أي الذين أتونا بوعده ووعيده، فالله الذي تقدم وعده به وأرسل به ورسله هو الذي بعثنا تصديقاً لوعده ورسله.
ولما كان الإخبار بالنفخ لا ينفي التعدد، قال محقراً لأمر البعث بالنسبة إلى قدرته مظهراً للعناية بتأكيد كونها واحدة بجعل الخبر عنه أصلاً مستقلاً بفضله عن النفخ والإتيان فيه بفعل الكون و "إن" النافية لأدنى مظاهر مدخولها فكيف بما وراءه دون "ما" التي إنما تنفي التمام: { إن } أي ما { كانت } أي النفخة التي وقع الإحياء بها مطلق كون { إلا صيحة واحدة } أي كما كانت نفخة الإماتة واحدة { فإذا هم } أي فجأة من غير توقف أصلاً { جميع } أي على حالة الاجتماع، لم يتأخر منهم أحد، يتعللون به في ترك الانتصار، ودوام الخضوع والذل والصغار، ولما كان ذلك على هيئات غريبة لا يبلغ كنهها العقول، قال لافتاً القول إلى مظهر العظمة معبراً بما للأمور الخاصة: { لدينا } ولما كان ذلك أمراً لا بد منه، ولا يمكن التخلف عنه، عبر بصيغة المفعول وأكد معنى الاجتماع بالجمع نظراً إلى معنى جميع ولم يفرد اعتباراً للفظها لما ذكر من المعنى فقال: { محضرون * } أي بغاية الكراهة منهم لذلك بقادة تزجرهم وساقة تقهرهم.
ولما كان هذا الإحضار بسبب العدل وإظهار جميع صفات الكمال قال: { فاليوم } ولما كان نفي الظلم مطلقاً أبلغ من نفيه عن أحد بعينه، وأدل على المراد وأوجز، قال لافتاً القول عن الإظهار أو الإضمار بمظهر العظمة أو غيره! { لا تظلم } ولما كان التعبير بما كثر جعله محط الرذائل والحظوظ والنقائص أدل على عموم نفي الظلم قال: { نفس } أي أيّ نفس كانت مكروهة أو محبوبة { شيئاً } أي لا يقع لها ظلم ما من أحد ما في شي ما. ولما كانت المجازاة بالجنس أدل على القدرة وأدخل في العدل، قال محققاً بالخطاب والجمع أن المنفي ظلمه كل من يصلح للخطاب لئلا يقع في وهم أن المنفي ظلمه نفوس مخصوصة أو نفس واحد: { ولا تجزون } أي على عمل من الأعمال شيئاً من الجزاء من أحد ما { إلا ما كنتم تعملون * } ديدناً لكم بما ركز في جبلاتكم.
ولما قرر أن الجزاء من جنس العمل، شرع في تفصيله، وبدأ بأشرف الحزبين في جواب من سأل عن هذا الجزاء فقال مؤسفاً لأهل الشقاء بالتذكير بالتأكيد بما كان لهم من الإنكار في الدنيا وإظهار للرغبة في هذا القول والتبجح به لما له من عظيم الثمرة: { إن اصحاب الجنة } أي الذين لا حظ للنار فيهم، وكرر التعبير باليوم تعظيماً لشأنه وتهويلاً لأمره على إثر نفختيه المميتة والمقيمة بذكر بعض ثمراته، وجمل من عظائم تأثيراته، فقال: { اليوم } أي يوم البعث، وهذا يدل على أنه يعجل دخولهم أو دخول بعضهم إليها ووقوف الباقين للشفاعة ونحوها من الكرامات عن دخول أهل النار النار، وعبر بما يدل على أنهم بكلياتهم مقبلون عليه ومظروفون له مع توجههم إليه فقال: { في شغل } أي عظيم جداً لا تبلغ وصفه العقول كما كانوا في الدنيا في أشغل الشغل بالمجاهدات في الطاعات. ولما تاقت النفوس إلى تفسير هذا الشغل قال: { فاكهون * } أي لهم عيش المتفكة، وهو الأمن والنعمة والبسط واللذة وتمام الراحة كما كانوا يرضوننا بإجهاد أنفسهم وإتعابها وإشقائها وإرهابها، وقراءة أبي جعفر بحذف الالف أبلغ لأنها تدور على دوام ذلك لهم وعلى أنهم في أنفسهم في غاية ما يكون من خفة الروح وحسن الحديث.
ولما كانت النفس لا يتم سرورها إلا بالقرين الملائم قال: { هم } أي بظواهرهم وبواطنهم { وأزواجهم } أي أشكالهم الذين هم في غاية الملاءمة كما كانوا يتركونهم في المضاجع على ألذ ما يكون، ويصفون أقدامهم في خدمتنا وهم يبكون { في ظلال } أي يجدون فيها برد الأكباد وغاية المراد، كما كانوا يشوون أكبادهم في دار العمل بحر الصيام، وتجرع مرارات الأوام، والصبر في مرضاتنا على الآلام، ويقرون أيديهم وقلوبهم عن الأموال، ببذل الصدقات في سبلنا على مر الأيام وكر الليال، وقراءة حمزة والكسائي بضم الظاء وحذف الألف على أنه أشد امتداداً، ويدل اتفاقهما في الجمع على أن الظل فيها مختلف باختلاف الأعمال.
ولما كان التمتع لا يكمل إلا مع العلو الممكن من زيادة العلم الموجب لارتياح النفس وبهجة العين بانفساح البصر عند مد النظر، قال: { على الأرائك } أي السرر المزينة العالية التي هي داخل الحجل، قال البغوي: قال ثعلب: لا يكون أريكة حتى يكون عليها حجلة، وقال ابن جرير: الأرائك: الحجال فيها السرر، وروى أبو عبيد في كتاب الفضائل عن الحسن قال: كنا لا ندري ما الأرائك حتى لقينا رجلاً من أهل اليمن فأخبرنا أن الأريكة عندهم الحجلة فيها السرير. وهذا جزاء لما كانوا يلزمون المساجد ويغضون الأبصار ويضعون نفوسهم لأجلنا { متكئون * } كما كانوا يدأبون في الأعمال قائمين بين أيدينا في أغلب الأحوال، والاتكاء: الميل على شق مع الاعتماد على ما يريح الاعتماد عليه، أو الجلوس مع التكمن على هيئة المتربع، وقراءته بضم الكاف وحذف الهمزة أدل على التربع وما قاربه، وقراءة كسر الكاف وضم الهمزة أدل على القرب من التمدد لما فيها من الكسرة، فإنه يقال كما نقله أبو عبد الله القزاز: اتكأت الرجل اتكاء - إذا وسدته أي جعلت له وسادة، أي محذة يستريح عليها.