خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٧٠
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ
٧١
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ
٧٢
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ
٧٣
-يس

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما آتاه من غرائز الشرف في سن النكس لغيره، ذكر علة ذلك فقال: { لينذر } أي الرسول صلى الله عليه وسلم بدليل ما دل عليه السياق من التقدير، ويؤيده لفت الكلام في قراءة نافع وابن عامر ويعقوب بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهمه حق فهمه غيره صلى الله عليه وسلم.
ولما كان هذا القرآن مبيناً، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم متخلقاً به، فهو مظهره وصورة وسورته، فكان حاله مقتضياً لئلا يتخلف عن الإيمان حيّ، قال مظهراً لما كان حقه في بادي الرأي الإضمار إفادة للتعميم مبيناً لأن حكمه سبحانه منع من ذلك، فانقسم المنذورن إلى قسمين: { من كان } كوناً متمكناً { حياً } أي حياة كاملة معنوية تكون سبباً للحياة الدائمة، فإنه لا يتوقف حينئذ عن الإيمان به خوفاً مما يخوف به من الأمور التي لا يتوجه إليها ريب بوجه، فيرجى له الخير، فهو مؤمن في الحقيقة وإن ظهر عليه في أول أمره خلاف ذلك، وأفرد الضمير هنا على اللفظ إشارة إلى قلة السعداء، وجمع في الثاني على المعنى إعلاماً بكثرة الأشقياء { ويحق } أي يجب ويثبت { القول } أي بالعذاب { على الكافرين * } أي العريقين في الكفر فإنهم أموات في الحقيقة وإن رأيتهم أحياء، فالآية من الاحتباك: حذف الإيمان أولاً لما دل عليه من ضده ثانياً، وحذف الموت ثانياً لما دل عليه من ضده أولاً، فتحقق بهذا أن أعظم منافاة القرآن للشعر وكذا السجع من أجل أنه جد كله، فمحط أساليبه بالقصد الأول المعاني والألفاظ تابعة، والشاعر والساجع محط نظرهما بالقصد الأول الروي والقافية والفاصلة حتى أن ذلك ليؤدي إلى ركة المعنى والكلام بغير الواقع ولا بد، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه وحاله معروف في البلاغة والتفنن في أساليب الكلام وصدق اللهجة وحسن الإسلام في غزوة الغابة وكان أميرها سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه:

أسـر أولاد اللقيطــة أننــاسلـم غــداة فـوارس المقــداد

فغضب سعد على حسان رضي الله عنهما وحلف: لا يكلمه أبداً، وقال: انطلق إلى خيلي وفوارسي، فجعلها للمقداد، فاعتذر إليه حسان رضي الله عنهما ومدحه بأبيات وقال: والله ما أردت ذلك ولكن الروي وافق اسم المقداد، لأن القصيدة دالية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يدور في فكره أبداً قصد اللفظ، فإنه من باب الترويق، وهو صلى الله عليه وسلم جد كله، فهو لا يعدل عنه لأنه موزون، بل لأنه لا يؤدي المعنى كما أن العرب تعدل عن اللحن ولا تحسن النطق به ولا تطوع ألسنتها له لكونه لحناً، لا لكونه حركة، فإن وافق شيء من الموزون ما أريد من المعنى لأجل أداء المعنى قاله، كما يقع لكثير من المصنفين الكلام الموزون وما قصده، وكما وقع كثير من الكلام الموزون من جميع أبحر الشعر في القرآن وإن لم يوافق المعنى لم يقله، وعلى هذا يتخرج قوله صلى الله عليه وسلم:

أنــــا النـبــــي لا كـــــذبأنــا ابـــن عبـــد المطلــــب

لو تظاهر الإنس والجن على أن يأتوا بما أداه من المعنى في ألفاظه أو مثلها على غير هذا النظم لم يقدروا، وإذا تأملت كل بيت تمثل به فكسره لا تجده كسره إلا لمعنى جليل، لا يتأتى مع الوزن أو يكون لا فرق بين أدائه موزوناً ومكسوراً، وهكذا السجع سواء، ومن هنا علم أنه ليس المعنى أنه لا يحسن الوزن، بل المعنى أن تعمد الوزن والسجع نقيصة لا تليق بمنصبه العالي لأن الشاعر مقيد بوزن وروي وقافية، فإن إطاعه المعنى مع ما هو مقيد به كان وإلا احتال في إتمام ما هو مقيد به وإن نقص المعنى، والساجع قريب من ذلك، فهذا هو الذي لم يعلمه الله له، لأنه صلى الله عليه وسلم تابع للمعاني والحقائق والحكم التي تفيد الحياة الدائمة، لأنه مهيأ بالطبع المستقيم لذلك غير مهيأ لغيره من التكلف، وإذا أنعمت النظر في آخر الآية الذي هو تعليل لما قبله تحققت أن هذا هو المراد، فوضح أيّ وضوح بهذا أن كلاًّ منهما نقيصة، فلا يتحرك شيء من أخلاقه الشريفة نحوها، ولا يكون له بذلك شيء من الاعتناء، وقد أشبعت الكلام في هذا وأتقنته في كتابي "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" وهو كالمدخل إلى هذا الكتاب - والله الموفق للصواب.
ولما أخبر سبحانه بإعماء أفكارهم، وهدد بطمس أبصارهم، ومسخهم على مقاعدهم وقرارهم، وأعلم بأن كتابه خاتم بإنذارهم، ذكرهم بقدرته وقررهم تثبيتاً لذلك ببدائع صنعته، فقال عاطفاً على ما تقديره: ألم يروا ما قدمناه وأفهمته آية { ومن نعمره } وما بعدها من بدائع صنعنا تلويحاً وتصريحاً الدال على علمنا الشامل وقدرتنا التامة، فمهما صوبنا كلامنا إليه حق القول عليه ولم يمنعه مانع، ولا يتصور له دافع { أولم يروا } أي يعلموا علماً هو كالرؤية ما هو أظهر عندهم دلالة من ذلك في أجل أموالهم، ولا يبعد عندي - وإن طال المدى - أن يكون معطوفاً على قوله: { ألم يروا كما أهلكنا قبلهم من القرون } فذاك استعطاف إلى توحيده بالتحذير من النقم، وهذا بالتذكير بالنعم، ونبههم على ما في ذلك من العظمة بسوق الكلام في مظهرها كما فعل في آية إهلاك القرون فقال: { أنا خلقنا لهم } وخصها بنفسه الشريفة محواً للأسباب وإظهاراً لتشريفهم بتشريفها في قوله: { مما عملت }.
ولما كان الإنسان مقيداً بالوهم لا ينفك عنه، ولذلك يرة الأرواح في المنام في صور أجسادنا، وكانت يده محل قدرته وموضع اختصاصه، عبر له بما يفهمه فقال: { أيدينا } لأي بغير واسطة على علم منا بقواها ومقاديرها ومنافعها وطبائعها وغير ذلك من أمورها { أنعاماً } ثم بين كونها لهم بما سبب عن خلقها من قوله: { فهم لها مالكون * } أي ضابطون قاهرون من غير قدرة لهم على ذلك لولا قدرتنا بنوع التسبب.
ولما كان الملك لا يستلزم الطواعية، قال تعالى: { وذللناها لهم } أي يسرنا قيادها، ولو شئنا لجعلناها وحشية كما جعلنا أصغر منها وأضعف، فمن قدر على تذليل الأشياء الصعبة جداً لغيره فهو قادر على تطويع الأشياء لنفسه، ثم سبب عن ذلك قوله: { فمنها ركوبهم } أي ما يركبون، وهي الإبل لأنها أعظم مركوباتهم لعموم منافعها في ذلك وكثرتها، ولمثل ذلك في التذكير بعظيم النعمة والنفع واستقلال كل من النعمتين بنفسه أعاد الجار، وعبر بالمضارع للتجدد بتجدد الذبح بخلاف المركوب فإن صلاحه لذلك ثابت دائم فقال: { ومنها يأكلون * }.
ولما أشار إلى عظمة نفع الركوب والأكل بتقديم الجار، وكانت منافعها من غير ذلك كثيرة، قال: { ولهم فيها منافع } أي بالأصواف والأوبار والأشعار والجلود والبيع وغير ذلك، وخص المشرب من عموم المنافع لعموم نفعه، فقال جامعاً له لاختلاف طعوم ألبان الأنواع الثلاثة، وكأنه عبر بمنتهى الجموع لاختلاف طعوم أفراد النوع الواحد لمن تأمل { ومشارب } أي من الألبان، أخرجناها مميزة عن الفرث والدم خالصة لذيذة، وكل ذلك لا سبب له إلا أن كلمتنا حقت به، فلم يكن بد من كونه على وفق ما أردنا، فليحذر من هو أضعف حالاً منها من حقوق أمرنا ومضي حكمنا بما يسوءه.
ولما كانت هذه الأشياء من العظمة بمكان، لو فقده الإنسان لتكدرت معيشته، سبب عن ذلك استئناف الإنكار عليهم في تخلفهم عن طاعته بقوله: { أفلا يشكرون * } أي يوقعون الشكر، وهو تعظيم المنعم لما أنعم وهو استفهام بمعنى الأمر.