خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ
١٩
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ
٢٠
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ
٢١
إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ
٢٢

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أخبر سبحانه عن تسخير أثقل الأشياء وأثبتها له، أتبعها أخفها وأكثرها انتقالاً، وعبر فيها بالاسم الدال على الاجتماع جملة والثبات لأنه أدل على القدرة فقال معبراً باسم الجمع دون الجمع إشارة إلى أنها في شدة الاجتماع كأنها شي واحد، ذكر حالها في وصف صالح للواحد، وجعله مؤنثاً إشارة إلى ما تقدم من الرخاوة اللازمة للإناث المقتضية لغاية الطواعية والقبول لتصرف الأحكام: { والطير } أي سخرناها له حال كونها { محشورة } أي مجموعة إليه كرهاً من كل جانب دفعة واحدة - بما دل التعبير بالاسم دون الفعل وهو أدل على القدرة وهي أشد نفرة من قومك وأعسر ضبطاً وهذا كما كان الحصى يسبح في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يد بعض أصحابه، وكما تحرك الجبل فضربه برجله وقال: "اسكن أحد" فسكن، وكما حشر الدبر على رأس عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح رضي الله عنه فمنع من أخذه ليتلعب به، فلما جاء الليل أرسل الله سيلاً فاحتمله إلى حيث لم يعرف له خبر ولا وقف له على أثر { كل } أي كل واحد من الجبال والطير { له أواب * } أي رجاع لأجل داود عليه السلام خاصة عن مألوفه لا بمعنى آخر مما ألفته، فكلما رجع هو عن حكمه وما هو فيه من الشغل بالخلق إلى تسبيح الحق رجعت معه بذلك الجبال والطير، وجعل الخبر مفرداً إشارة إلى إلى شدة زجلها بالتأديب وعظمته، والإفراد أيضاً يفيد الحكم على كل فرد، ولو جمع لطرقه احتمال أن الحكم على المجموع يقيد الجمع، فكأن داود عليه السلام يفهم تسبيح الجبال والطير، وينقاد له كل منهما إذا أمره بالتسبيح، وكل من تحقق بحاله ساعده كل شيء - قاله القشيري، ففي هذا إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنا متى شئنا جعلنا قومك معك في التسخير هكذا، فلا تيأس منهم على شدة نفرتهم وقوة سماجتهم وغرتهم، فإنا جعلناهم كذلك لتروض نفسك بهم وتزداد بالصبر عليهم جلالاً، وعلواً ورفعة وكمالاً - إلى غير ذلك من الحكم التي لا تسعها العقول، ولا تيأس من لينهم لك ورجوعهم إليك فإنهم لا يعدون أن يكونوا كالجبال قوة وصلابة، أو الطير نفرة وطيشاً وخفة، فمتى شئنا جعلناهم لك مثل ما جعلنا الجبال والطير مع داود عليه السلام، بل أمرهم أيسر وشأنهم أهون.
ولما كان هذا دالاً على الملك من حيث أنه التصرف في الأشياء العظيمة قسراً، فكان كأنه قيل: كل ذلك إثباتاً لنبوته وتعظيماً لملكه، قال: { وشددنا } أي بما لنا من العظمة { ملكه } بغير ذلك مما يحتاج إليه الملك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان أشد ملوك الأرض سلطاناً.
ولما كان أعظم المثبتات للملك المعرفة قال: { وآتيناه } أي بعظمتنا { الحكمة } أي النبوة التي ينشأ عنها العلم بالأشياء على ما هي عليه، ووضع الأشياء في أحكم مواضعها، فالحكمة العمل بالعلم. ولما كان تمامه بقطع النزاع قال: { وفصل الخطاب * } أي ومعرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير كبير روية في ذلك، بل يفرق بديهة بين المتشابهات بحيث لا يدع لبساً يمكن أن يكون معه نزاع لغير معاند وكسوناه عزاً وهيبة ووقاراً يمنع أن يجترىء أحد على العناد في شيء من أمره بعد ذلك البيان الذي فصل بين المتشابهات، وميز بين المشكلات الغامضات، وإذا تكلم وقف على المفاصل، فيبين من سرده للحديث معانيه، ويضع الشيء في أحكم مبانيه.
ولما كان السياق للتدريب على الصبر والتثبيت الشافي والتدبر التام والابتلاء لأهل القرب، وكان المظنون بمن أوتي فصل الخطاب أن لا يقع له لبس في حكم ولا عجلة في أمر، وكان التقدير: هل أتتك هذه الأنباء، عطف عليه - مبيناً عواقب العجلة معلماً أن على من أعطى المعارف أن لا يزال ناظراً إلى من أعطاه ذلك سائلاً له التفهيم، استعجازاً لنفسه متصوراً لمقام العبودية التي كرر التنبيه عليها في هذه السورة بنحو قوله: "نعم العبد" قوله في سياق ظاهره الاستفهام وباطنه التنبيه على ما في ذلك من الغرابة خبره العظيم جداً، وأفرده وإن كان المراد الجمع دلالة على أنهم على كلمة واحدة في إظهار الخصومة لا يظهر لأحد منهم أنه متوسط مثلاً ونحو ذلك.
ولما كان الخصم مصدراً يقع على الواحد فما فوقه ذكراً كان أو أنثى، وكان يصح تسمية ربقة المتخاصمين خصماً لأنهم في صورة الخصم قال: { إذ } أي خبر تخاصمهم حين { تسوروا } أي صعدوا السور ونزلوا من هم ومن معهم، آخذاً من السور وهو الوثوب { المحراب * } أي أشرف ما في موضع العبادة الذي كان داود عليه السلام به، وهو كناية عن أنهم جاؤوه في يوم العبادة ومن غير الباب، فخالفوا عادة الناس في الأمرين، وكأن المحراب الذي تسوروه كان فيه باب من داخل باب آخر، فنبه على ذلك بأن أبدل من "إذ" الأول قوله: { إذ } أي حين { دخلوا } وصرح باسمه رفعاً للبس وإشعاراً بما له من قرب المنزلة وعظيم الود فقال: { على داود } ابتلاء منا له مع ما له من ضخامة الملك وعظم القرب منا، وبين أن ذلك كان على وجه يهول أمره إما لكونه في موضع لا يقدر عليه أحد أو غير ذلك بقوله: { ففزع } أي ذعر وفرق وخاف { منهم } أي مع ما هو فيه من ضخامة الملك وشجاعة القلب وعلم الحكمة وعز السلطان.
ولما كان كأنه قيل: فما قالوا له؟ قال: { قالوا لا تخف } ولما كان ذلك موجباً لذهاب الفكر في شأنهم كل مذهب، عينوا أمرهم بقولهم: { خصمان } أي نحن فريقان في خصومة، ثم بينوا ذلك بقولهم: { بغى بعضنا } أي طلب طلبة علو واستطالة { على بعض } فأبهم أولاً ليفصل ثانياً فيكون أوقع في النفس، ولما تسبب عن هذا سؤاله في الحكم قالوا: { فاحكم بيننا بالحق } أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، وإنما سألاه ذلك مع العلم بأنه لا يحكم إلا بالعدل ليكون أجدر بالمعاتبة عند أدنى هفوة { ولا تشطط } أي لا توقع البعد ومجاوزة الحد لا في العبارة عن ذلك بحيث يلتبس علينا المراد ولا في غير ذلك، أو ولا تمعن في تتبع مداق الأمور فإني أرضى بالحق على أدنى الوجوه، ولذا أتى به من الرباعي والثلاثي بمعناه، قال أبو عبيد: شط في الحكم وأشط - إذا جار، ولذا أيضاً فك الإدغام إشارة إلى أن النهي إنما هو عن الشطط الواضح جداً. ولما كان الحق له أعلى وأدنى وأوسط، طلبوا التعريف بالأوسط فقالوا { واهدنا } أي أرشدنا { إلى سواء } أي وسط { الصراط * } أي الطريق الواضح، فلا يكون بسبب التوسط ميل إلى أحد الجانبين: الإفراط في تتبع مداق الأمر والتفريط في إهمال ذلك.