خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً
٤٠
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً
٤١
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً
٤٢
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
٤٣
-النساء

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما فرغ من توبيخهم قال معللاً: { إن الله } أي الذي له كل كمال، فهو الغني المطلق { لا يظلم } أي لا يتصور أن يقع منه ظلم ما { مثقال ذرة } أي فما دونها، وإنما ذكرها لأنها كناية عن العدم، لأنها مثل في الصغر، أي فلا ينقص أحداً شيئاً مما عمله، ولا يثيب عليه شيئاً لم يعمله، فماذا على من آمن به وهو بهذه الصفة العظمى.
ولما ذكر التخلي من الظلم، أتبعه التحلي بالفضل فقال عاطفاً على ما تقديره: فإن تك الذرة سيئة لم يزد عليها، ولا يجزي بها إلا مثلها: { وإن } ولما كان تشوف السامع إلى ذلك عظيماً، حذف منه النون بعد حذف المعطوف عليه تقريباً لمرامه فقال: { تك } أي مثقال الذرة، وأنثه لإضافته إلى مؤنث، وتحقيراً له، ليفهم تضعيف ما فوقه من باب الأولى، وهذا يطرد في قراءة الحرميين برفع { حسنة } أي وإن صغرت { يضاعفها } أي من جنسها بعشرة أمثالها إلى سبعين إلى سبعمائة ضعف إلى أزيد من ذلك بحسب ما يعلم من حسن العمل بحسن النية { ويؤت من لدنه } أي من غريب ما عنده فضلاً من غير عمل لمن يريد. قال الإمام: وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات الجسمانية، وهذا الأجر إلى السعادات الروحانية { أجراً عظيماً * } وسماه أجراً - وهو من غير جنس تلك الحسنة - لابتنائه على الإيمان، أي فمن كان هذا شأنه لا يسوغ لعاقل توجيه الهمة إلا إليه، ولا الاعتماد أصلاً بإنفاق وغيره إلا عليه.
ولما تم تحذيره من اليوم الآخر وما ذكره من إظهار العدل واستقصائه فيه كان سبباً للسؤال عن حال المبكتين في هذه الآيات إذ ذاك، فقال: { فكيف } أي يكون حالهم وقد حملوا أمثال الجبال من مساوي الأعمال! { إذا جئنا } على عظمتنا { من كل أمة بشهيد } أي يشهد عليهم { وجئنا بك } وأنت أشرف خلقنا { على هؤلاء } أي الذين أرسلناك إليهم وجعلناك شهيداً عليهم { شهيداً * } وفي التفسير من البخاري عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال:
"قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ عليّ قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } قال أمسك فإذا عيناه تذرفان" ثم استأنف الجواب عن ذلك بقوله: { يومئذ } أي تقوم الإشهاد { يود الذين كفروا } أي ستروا ما تهدي إليه العقول من آياته, وبين أنهم مخاطبون بالفروع في قوله: { وعصوا الرسول } بعد ستر ما أظهر من بيناته { لو تسوى بهم الأرض } أي تكون مستوية معتدلة بهم، ولا تكون كذلك إلا وقد غيبتهم واستوت بهم، ولم يبق فيها شيء من عوج ولا نتوّ بسبب أحد منهم ولا شيء من أجسامهم؛ وإنما ودوا ذلك خوفاً مما يستقبلهم من الفضيحة بعتابهم ثم الإهانة بعقابهم.
ولما كان التقدير: فلا تسوى بهم، عطف عليه قوله: { ولا يكتمون الله } أي الملك الأعظم { حديثاً * } أي شيئاً أحدثوه بل يفتضحون بسيىء أخبارهم، ويحملون جميع أوزارهم، جزاء لما كانوا يكتمون من آياته وما نصب للناس من بيناته.
ولما وصف الوقوف بين يديه في يوم العرض والأهوال الذي أدت فيه سطوة الكبرياء والجلال إلى تمني العدم، ومنعت قوة يد القهر والجبر أن يكتم حديثاً، وتضمن وصفه أنه لا ينجو فيه إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان به والطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ وصف الوقوف بين يديه في الدنيا في مقام الأنس وحضرة القدس المنجي من هول الوقوف في ذلك اليوم، والذي خطرت معاني اللطف والجمال فهي الالتفات إلى غيره، وأمر بالطهارة في حال التزين به عن الخبائث فقال: { يا أيها الذين أمنوا } أي أقروا بالتصديق بالرسل وما أتوا به عن الله، وأوله وأولاه أن لا تشركوا به شيئاً من الإشراك { لا تقربوا الصلاة } أي بأن لا تكونوا في موضعها فضلاً عن أن تفعلوها { وأنتم } أي والحال أنكم { سكارى } أي غائبو العقل من الخمر أو نحوها، فإنه يوشك أن يسبق اللسان - بتمكن الشيطان بزوال العقل - إلى شيء من الإشراك، فيكون شركاً لسانياً وإن كان القلب مطمئناً بالإيمان، فيوشك أن يعرض ذلك عليه يوم الوقوف الأكبر، فإن من أنتم بين يديه لا يكتم حديثاً، فيود من نطق سانه بذلك - لما يحصل له من الألم - لو كان من أهل العدم! وأصل السكر في اللغة: سد الطريق؛ وسبب نزولها ما رواه مسدد بإسناد - قال شيخنا البوصيري: رجاله ثقات - عن علي رضي الله تعالى عنه "أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه فسقاهما قبل أن تحرم الخمر، فأمهم علي رضي الله تعالى عنه في المغرب وقرأ
{ { قل يا أيها الكافرون } [الكافرون: 1] فنزلت" هكذا رواه، وقد رواه أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وعبد بن حميد والبزار والحاكم والطبري، فبينوا المراد، وهو أن الذي صلى بهم قرأ: أعبد ما تعبدون، وفي رواية الترمذي: ونحن نعبد ما تعبدون.
ولما أفهم النهي عن قربانها ي هذا الحال زواله بانقضائه، صرح به في قوله: { حتى } أي ولا يزال هذا النهي قائماً حتى { تعلموا } بزوال السكر { ما تقولون } فلا يقع منكم حينئذ تبديل؛ وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه أن المراد بالصلاة نفسها وموضعها وهو المسجد، وذلك من أدلته على استعمال الشيء في حقيقته ومجازه؛ نهى السكران أن يصلي إلى أن يفهم، أي يصحو، ونهى كل واحد أن يكون في المسجد وهو جنب بقوله عطفاً على محل { وأنتم سكارى }: { ولا } أي ولا تقربوا الصلاة بالكون في محالها فضلاً عنها { جنباً } أي ممنين بالفعل أو القوة القريبة منه بالتقاء الختانين، لأن الجنابة المني سواء كان عن جماع أو لا في حال من أحوال الجنابة { إلا عابري سبيل } أي مارين مروراً من غير مكث ولا صلاة؛ ولما غيَّى منع الجنابة بقوله: { حتى تغتسلوا } أي تغسلوا البدن عمداً، ولما كان للإنسان حالات يتعسر أو يتعذر فيها عليه استعمال الماء؛ ذكرها فقال مرتباً لها على الأحوج إلى الرخصة فالأحوج: { وإن كنتم مرضى } أي بجراحة أو غيرها مرضاً يمنع من طلب الماء أو استعماله { أو على سفر } كذلك سواء كان السفر طويلاً أو قصيراً { أو جاء أحد منكم } أي أيها المؤمنون! ولو كان حاضراً صحيحاً { من الغائط } أي المكان المطمئن من الأرض الواسع الذي يقصد للتخلي، أي: أو جاء من التخلي فقضى حاجته التي لا بد له منها، فهو بها أحوج إلى التخفيف مما بعده.
ولما تقدم أمر الجنابة التي هي المني أعم من أن تكون بجماع أو غيره، ذكر هنا ما يعمها وغيرها من وجه فقال: { أو لامستم النساء } أي بمجرد التقاء البشرتين أو بالجماع سواء حصل إنزال أو لا، وأخر هذا لأنه مما منه بد، ولا يتكرر تكرر قضاء الحاجة { فلم تجدوا ماء } أي إما بفقده أو بالعجز عن استعماله { فتيمموا } أي اقصدوا قصداً صادقاً بأن تلابسوا ناوين { صعيداً } أي تراباً { طيباً } أي طهوراً خالصاً فهو بحيث ينبت
{ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } [الأعراف: 58] { فامسحوا } وهذه عبادة خاصة بنا.
ولما كان التراب لا يتمكن من جميع العضو وإن اجتهد الإنسان في ذلك أدخل الباء قاصراً للفعل في قوله: { بوجوهكم } أي أوقعوا المسح بها سواء عم التراب منبت الشعر أم لا { وأيديكم } أي منه كما صرح به في المائدة، لا فيه ولا عليه مثلاً، ليفهم التمعك, أو أن الحجر مثلاً يكفي، والملامسة جوز الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضاً أن يراد بها المس - أي ملاقاة البشرتين - الذي هو حقيقة اللمس والجماع الذي هو مسبب عن المس، أو هو مماسة خاصة، فهو من تسمية الكل باسم البعض حينئذ.
ولما نهى عما يدني من وقوع صورة الذنب الذي هو جري اللسان بما لا يليق به سبحانه وتعالى، وخفف ما كان شديداً بالتيمم؛ ختم الآية بقوله: { إن الله } أي الذي اختص بالكمال { كان عفوّاً } أي بترك العقاب على الذنب، وكأن هذا راجع إلى ما وقع حالة السكر { غفوراً * } أي بترك العقاب وبمحو الذنب حتى لا يذكر بعد ذلك أصلاً، وكأن هذا راجع إلى التيمم، فإن الصلاة معه حسنة، ولولاه كانت سيئة مذكورة ومعاقباً عليها، إما على تركها لمشقة استعمال الماء عند التساهل، أو على فعلها بغير طهارة في بعض وجوه التنطع، وذلك معنى قوله سبحانه وتعالى في المائدة
{ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } [المائدة: 6] ومن كانت عادته العفو والمغفرة كان ميسراً غير معسر.