ولما أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذم من حاكم إلى غيره وهدده، وختم تهديده بأمر
النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنه والوعظ له، فكان التقدير: فما أرسلناك وغيرك من الرسل إلا
الرفق بالأمة والصفح عنهم والدعاء لهم على غاية الجهد والنصيحة، عطف عليه قوله:
{ وما أرسلنا } أي بما لنا من العظمة، ودل على الإعراق في الاستغراق بقوله: { من
رسول } ولما كان ما يؤتيهم سبحانه وتعالى من الآيات ويمنحهم به من المعجزات
حاملاً في ذاته على الطاعة, شبهه بالحامل على إرساله فقال: { إلا ليطاع } أي لأن
منصبه الشريف مقتض لذلك آمر به داعٍ إليه { بإذن الله } أي بعلم الملك الأعظم الذي له
الإحاطة بكل شيء في تمكينه من أن يطاع، لما جعلنا له من المزية بالصفات العظيمة
والمناصب الجليلة والأخلاق الشريفة كما قال صلى الله عليه وسلم " ما من الأنبياء نبي إلا وقد أوتي من
الآيات ما مثله آمن عليه البشر " أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ولما كان التقدير: فلو أطاعوك لكان خيراً لهم، عطف عليه قوله: { ولو أنهم إذ }
أي حين { ظلموا أنفسهم } أي بالتحاكم إلى الطاغوت أو غيره { جاءوك } أي مبادرين
{ فاستغفروا الله } أي عقبوا مجيئهم بطلب المغفرة من الملك الأكرم لما استحضروه له
من الجلال { واستغفر لهم الرسول } أي ما فرطوا بعصيانه فيما استحقه عليهم من الطاعة
{ لوجدوا الله } أي الملك الأعظم { تواباً رحيماً * } أي بليغ التوبة على عبيده
والرحمة، لإحاطته بجميع صفات الكمال، فقبل توتبهم ومحا ذنوبهم وأكرمهم.
ولما أفهم ذلك أن إباءهم لقبول حكمه والاعتراف بالذنب لديه سبب مانع لهم من
الإيمان، قال - مؤكداً للكلام غاية التأكيد بالقسم المؤكد لإثبات مضمونه و "لا" النافية
لنقيضه: { فلا وربك } أي المحسن إليك { لا يؤمنون } أي يوجدون هذا الوصف ويجددونه { حتى يحكموك } أي يجعلوك حكماً { فيما شجر } أي اختلط واختلف { بينهم } من كلام بعضهم لبعض للتنازع حتى كانوا كأغصان الشجر في التداخل والتضايق.
ولما كان الإذعان للحكم بما يخالف الهوى في غاية الشدة على النفس, أشار إليه
بأداة التراخي فقال: { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً } أي نوعاً من الضيق { مما
قضيت } أي عليهم به، وأكد إسلامهم لأنفسهم بصيغة التفعيل فقال: { ويسلموا } أي
يوقعوا التسليم البليغ لكل ما هو لهم من أنفسهم وغيرها لله ورسوله صلى الله عليه وسلم خالصاً عن
شوب كره؛ ثم زاده تأكيداً بقوله: { تسليماً * } وفي الصحيح أن الآية نزلت في الزبير
وخصم له من الأنصار، فلا التفات إلى من قال: إنه حاطب رضي الله عنه.
ولما كان التقدير: فقد كتبنا عليهم طاعتك والتسيم لك في هذه الحنيفية السمحة
التي دعوتهم إليها وحملتهم عليها، عطف عليه قوله: { ولو أنا كتبنا عليهم } أي هذا
المخاصم للزبير رضي الله تعالى عنه وأشباه هذا المخاصم ممن ضعف إيمانه كتابة
مفروضة { أن اقتلوا أنفسكم } أي كما كان في التوراة في كفارة بعض الذنوب مباشرة
حقيقة، وكما فعل المهاجرون بتعريض أنفسهم لذلك ثلاث عشرة سنة، هم فيها عند
أعداء الله مضغة لحم بين يدي نسور يتخاطفونها { أو اخرجوا } كما فعل المهاجرون -
رضي الله تعالى عنهم - الذين الزبير من رؤوسهم { من دياركم } أي التي هي لأشباحكم
كأشباحكم لأرواحكم - توبة لربكم { ما فعلوه } أي لقصور إيمانهم وضعف إيقانهم،
ولو كتبناه عليهم ولم يرضوا به كفروا، فاستحقوا القتل.
ولما كان كل كدر لا يخلو عن خلاصه، قال: { إلا قليل منهم } أي وهم
العالمون بأن الله سبحانه وتعالى خير لهم من أنفسهم، وأن حياتهم إنما هي في طاعته؛
روي أن من هؤلاء ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه، قال: أما والله! إن الله
ليعلم مني الصدق، لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لقتلها! وكذا قال ابن مسعود وعمار
ابن ياسر رضي الله عنهما، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: والله لو
أمرنا ربنا لفعلنا! والحمد الله الذي لم يفعل بنا ذلك. ولا ريب في أن التقدير: ولكنا لم
نكتب عليهم فليشكروا لنا ويستمسكوا بهذه الحنيفية السمحة.
ولما كان مبنى السورة على الائتلاف وكان السياق للاستعطاف، قال مرغباً: { ولو
أنهم } أي هؤلاء المنافقين { فعلوا ما يوعظون } أي يجدد لهم الوعظ في كل حين { به
لكان } أي فعلهم ذلك { خيراً لهم } أي مما اختاروه لأنفسهم { وأشد تثبيتاً * } أي مما
ثبتوا به أنفسهم بالأيمان الحانثة { وإذاً لآتيناهم } أي وإذا فعلوا ما يوعظون به آتيناهم بما
لنا من العظمة إيتاء مؤكداً لا مرية فيه. وأشار بقوله: { من لدنا } إلى أنه من غرائب ما
عنده من خوارق خوارق العادات ونواقض نواقض المطردات { أجراً عظيماً * ولهديناهم } أي بما لنا من العظمة { صراطاً مستقيماً * } أي يوصلهم إلى مرادهم، وقد
عظم سبحانه وتعالى هذا الأجر ترغيباً في الطاعة أنواعاً من العظمة منها التنبيه بـ "إذا"،
والإتيان بصيغة العظمة و "لدن" مع العظمة والوصف بالعظيم.