خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَّن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً
٨٥
وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً
٨٦
ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً
٨٧
فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
٨٨
-النساء

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان ذلك موجباً للرغبة في طاعة النبي صلى الله عليه وسم لا سيما في الجهاد، وللرغبة فيمن كان بصفة المؤمنين من الإقبال على الطاعة، والإعراض عن كل من كان بصفة المنافقين، والإدامة لطردهم وإبعادهم والغلظة عليهم, والحذر من مجالستهم حتى يتبين إخلاصهم، وكان بين كثير من خلص الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبينهم قرابات توجب العطف المقتضي للشفقة عليهم، الحاملة للشفاعة فيهم، إما بالإذن في التخلف عن الجهاد لما يزخرفون القول من الأعذار الكاذبة، أو في العفو عنهم عند العثور على نقائصهم، أو في إعانتهم أو إعانة غيرهم بالمال والنفس في أمر الجهاد عند ادعاء أن المانع له عنه العجز - وفي غير ذلك، وكانت التوبة معروضة لهم ولغيرهم، وكان البر ما سكن إليه القلب، والإثم ما حاك في الصدر، والإنسان على نفسه بصيرة، وكانت البواطن لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وكان الإنسان ربما أظهر شراً في صورة خير؛ رغب سبحانه وتعالى في البر، وحذر من الإثم بقوله - معمماً مستأنفاً في جواب من كأنه قال: أما تقبل فيهم شفاعة -: { من يشفع } أي يوجد ويجدد، كائناً من كان، في أي وقت كان { شفاعة حسنة } أي يقيم بها عذر المسلم في كل ما يجوز في الدين ليوصل إليه خيراً، أو يدفع عنه ضيراً { يكن له نصيب منها } بأجر تسببه في الخير { ومن يشفع } كائناً من كان، في أي زمان كان { شفاعة سيئة } أي بالذب عن مجرم في أمر لا يجوز، والتسبب في إعلائه وجبر دائه؛ وعظّم الشفاعة السيئة لأن درء المفاسد أولى من جلب المصلح، فقال - معبراً بما يفهم النصيب ويفهم أكثر مه تغليظاً في الزجر -: { يكن له كفل منها } وهذا بيان لأن الشفاعة فيهم سيئة إن تحقق إجرامهم، حسنة إن علمت توبتهم وإسلامهم.
ولما كان كل من تحريض المؤمنين على الجهاد والشفاعة الحسنة من وادي
"من سنَّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" حَسُنَ اقترانهما جداً، والنصيب قدر متميز من الشيء يخص من هو له، وكذا الكفل إلا أن الاستعمال يدل على أنه أعظم من النصيب، ويؤيده ما قالوا من أنه قد يراد به الضعف، فكأنه نصيب متكفل بما هو له من إسعاد وإبعاد؛ قال أهل اللغة: النصيب: الحظ، والكفر - بالكسر: الضعف والنصيب والحظ، ومادة "نصب" يدور على العلم المنصوب، ويلزمه الرفع والوضع والتمييز والأصل والمرجع والتعب، فيلزمه الوجع، ومن لوازمه أيضاً الحد والغاية والجد الوقوف؛ ومادة "كفل" تدور على الكفل - بالتحريك وهو العجز أو ردفه، ويلزمه الصحابة واللين والرفق والتأخر؛ وقال الإمام: الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الإنسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه، والمقصود هنا حصول ضد ذلك كقوله { فبشرهم بعذاب أليم } [آل عمران: 21 والتوبة: 34 والانشقاق: 24] والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سيقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله سبحانه وتعالى - انتهى. وما غلظ هذا الزجر إلا للعلم بأن أكثر النفوس ميالة بأصحابها للشفاعة بالباطل.
ولما كان الأليق بالرغبة أن لا يقطع في موجبها وإن عظم بالحقية، ليكون ذلك زاجراً عن مقارفة شيء منها وإن صغر؛ عبر في الحسنة بالنصيب، وفي السيئة بالكفل؛ ويؤيد إرادة هذا أنه تعالى لما ذكر ما يوجب الجنة من الإيمان والتقوى، وكان في سياق الوعظ لأهل الكتاب الذين هم على شرع أصله حق بتشريع رسول من عند الله، فتركهم لذلك بعيد يحتاج إلى زيادة ترغيب؛ عبر بالكفل فقال تعالى:
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته } [الحديد: 28] إلى آخرها.
ولما كان النصيب مبهماً بالنسبة إلى علمنا لتفاوته بالنسبة إلى قصور الشافعين، وإقدامهم على الشفاعة على علم أو جهل وغير ذلك مما لا يمكن الإحاطة به إلا الله سبحانه وتعالى علماً وقدرة؛ قال تعالى مرغباً ومرهباً: { وكان الله } أي ذو الجلال والإكرام { على كل شيء } من الشافعين وغيرهم وجزاء الشفاعة { مقيتاً * } أي حفيظاً وشهيداً وقديراً على إعطاء ما يقوت من أخلاق النفوس وأحوال القلوب وأرزاق الأبدان وجميع ما به القوام جزاء وابتداء من جميع الجهات، وعلى تقدير ما يستحق كل أحد من الجزاء على الشفاعة وكل خير وشر.
ولما كان ذلك موجباً للإعراض عنهم رأساً ومنابذتهم قولاً وفعلاً، وبين سبحانه وتعالى أن التحية ليست من وادي الشفاعة، وأن الشفاعة تابعة للعمل، والتحية تابعة للظاهر، فقال سبحانه وتعالى عاطفاً على ما تقديره: فلا تشفعوا فيهم وأنتم تعلمون سوء مقاصدهم، فقال معبراً بأداة التحقق بشارة لهم بأنهم يصيرون - بعد ما هم فيه الآن من النكد - ملوكاً، وفي حكم الملوك، يحبون ويشفع عندهم، وحثاً على التواضع: { وإذا حييتم بتحية } أي أي تحية كانت إذا كانت مشروعة، وأصل التحية الملك، واشتقاقها من الحياة، فكأن حياة الملك هي الحياة, وما عداها عدم, ثم أطلقت على كل دعاء يبدأ به عند اللقاء؛ وقال الأصبهاني: لفظ التحية صار كناية عن الإكرام، فجميع أنواع الإكرام تدخل تحت لفظ التحية { فحيوا بأحسن منها } كأن تزيدوا عليها { أو ردوها } أي من غير زيادة ولا نقص، وذلك دال على وجوب رد السلام - من الأمر، وعلى الفور - من الفاء والإجماع موافق لذلك، وترك الجواب إهانة، والإهانة ضرر، والضرر حرام؛ قال الأصبهاني: والمبتدىء يقول: السلام عليكم، والمجيب يقول: وعليكم السلام، ليكون الافتتاح والاختتام بذكر الله سبحانه وتعالى. وما أحسن جعلها تالية لآية الجهاد إشارة إلى أن من بذل السلام وجب الكف عنه ولو كان في الحرب، على أن من مقتضيات هاتين الآيتين أن مبني هذه السورة على الندب إلى الإحسان والتعاطف والتواصل، وسبب ذلك إما المال وقد تقدم الأمر به في قوله تعالى
{ وإذا حضر القسمة } [النساء: 8]، وإما غيره ومن أعظمه القول، لأنه ترجمان القلب الذي به العطف، ومن أعظم ذلك الشفاعة والتحية، قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم والأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه " "والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم " فناسب ذكر هاتين الآيتين بعد ذكر آية الجهاد المختتمة بالبأس والتنكيل.
ولما كانت الشفاعة أعظمها في الإحسان قدمت ولا سيما وموجبها الإعراض، ومقصد السورة التواصل، فشأنها أهم والنظر إليها آكد، ثم رغب في الإحسان في الرد، ورهب من تركه بقوله معللاً: { إن الله } أي الذي له الإحاطة علماً وقدرة { كان } أي أزلاً وأبداً { على كل شيء حسيباً * } أي محصياً لجميع المتعددات دقيقها وجليلها، كافياً لها في أقواتها ومثوباتها، محاسباً بها، مجازياً عليها، وذلك كله شأن المقيت؛ ثم علل ذلك بقوله دالاً على تلازم التوحيد والعدل: { الله } أي الذي لا مثل له { لا إله إلا هو } أي وقد أمركم بالعدل في الشفاعة والسلام، فإن لم تفعلوه - لما لكم من النقائص التي منها عدم الوحدانية - فهو فاعله ولا بد, فاحذروه لأنه واحد, فلا معارض له في شيء من الحساب ولا غيره، ولا يخفى عليه شيء فالحكم على البواطن إنما هو له تعالى، وأما أنتم فلم تكلفوا إلا بالظاهر.
ولما تبين أنه لا معارض له أنتج قوله مبيناَ لوقت الحساب الأعظم: { ليجمعنكم } وأكده باللام والنون دلالة على تقدير القسم لإنكار المنكرين له، ولما كان التدريج بالإماتة شيئاً فشيئاً، عبر بحرف الغاية فقال: { إلى يوم القيامة } والهاء للمبالغة، ثم آكده بقوله: { لا ريب فيه } أي فيفصل بينكم وبين من أخبركم بهم من المنافقين ونقد أحوالهم وبين محالهم، فيجازي كلاً بما يستحق.
ولما كان التقدير: فمن أعظم من الله قدرة! عطف عليه قوله: { ومن أصدق من الله } أي الذي له الكمال كله فلا شوب نقص يلحقه { حديثاً } وهو قد وعد بذلك لأنه عين الحكمة، وأقسم عليه، فلا بد من وقوعه، وإذ قد تحرر بما مضى أن المنافقين كفرة، لا لبس في أمرهم، وكشف سبحانه وتعالى الحكم في باطن أمرهم بالشفاعة وظاهره بالتحية، وحذر من خالف ذلك بما أوجبته على نفسه حكمته من الجمع ليوم الفصل للحكم بالعدل، وختم بأن الخبر عنهم وعن جميع ذلك صدق؛ كان ذلك سبباً لجزم القول بشقاوتهم والإعراض عنهم والبعد عن الشفاعة فيهم، والإجماع على ذلك من كل مؤمن وإن كان مبنى السورة على التواصل، لأن ذلك إنما هو حيث لا يؤدي إلى مقاطعة أمر الله، فقال تعالى مبكتاً لمن توقف عن الجزم بإبعادهم: { فما لكم } أيها المؤمنون { في المنافقين } أي أيّ شيء لكم من أمور الدنيا أو الآخرة في افتراقكم فيهم { فئتين } بعضكم يشتد عليهم وبعضكم يرفق بهم.
ولما كان هذا ظاهراً في بروز الأمر المطاع بين القول بكفرهم وضحه بقوله؛ { والله } أي والحال أن الملك الذي لا أمر لأحد معه { أركسهم } أي ردهم منكوسين مقلوبين { بما كسبوا } أي بعد إقرارهم بالإيمان من مثل هذه العظائم، فاحذروا ذلك ولا تختلفوا في أمرهم بعد هذا البيان؛ وفي عزوة أحد والتفسير من البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال:
"لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم، فنزلت: { فما لكم في المنافقين } - الآية، وقال: إنها طيبة تنفي الذنوب وفي رواية:- كما تنفي النار خبث الفضة" انتهى. فالمعنى حينئذ: اتفقوا على أن تسيروا فيها بما ينزل عليكم في هذه الآيات.
ولما كان حال من يرفق بهم حال من يريد هدايتهم، أنكر سبحانه وتعالى ذلك عليهم صريحاً لبت الأمر في كفرهم فقال { أتريدون } أي أيها المؤمنون { أن تهدوا } أي توجدوا الهداية في قلب { من أضل الله } أي وهو الملك الأعظم الذي لا يرد له أمر، وهو معنى قوله: { ومن } أي والحال أنه من { يضلل الله } أي بمجامع أسمائه وصفاته { فلن تجد } أي أصلاً أيها المخاطب كائناً من كان { له سبيلاً * } أي إلى ما أضله عنه أصلاً، والمعنى: إن كان رفقكم بهم رجاء هدايتهم فذلك أمر ليس إلا الله، وإنما عليكم أنتم الدعاء، فمن أجاب صار أهلاً للمواصلة، ومن أبى صارت مقاطعته ديناً، وقتله قربة، والإغلاظ واجباً.