خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَنْ عَمِـلَ سَـيِّئَةً فَلاَ يُجْزَىٰ إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ
٤٠
وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ
٤١
تَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلْغَفَّارِ
٤٢
لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلاَ فِي ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ
٤٣
فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِيۤ إِلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ
٤٤
-غافر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما حرك الهمم بهذا الوعظ إلى الإعراض عن دار الأنكاد والأمراض، والإقبال على دار الجلال والجمال بخدمة ذي العز والكمال، قال في جواب من سأل عن كيفية ذلك ما حاصله أنه بالإقبال على محاسن الأعمال، وترك السيء من الخلال، واصلاً بذلك على طريق البيان للبيان، ذاكراً عاقبة كل ليثبط عما يتلف، وينشط لما يزلف، مشيراً إلى جانب الرحمة أغلب، مقدماً لما هم عليه من السوء محذراً منه ليرجعوا { من عمل سيئة } أي ما يسوء من أي صنف كان: الذكور والإناث والمؤمنين والكافرين { فلا يجزى } أي من الملك الذي لا ملك سواه { إلا مثلها } عدلاً لا يزاد عليها مقدار ذرة ولا أصغر منها ويدخل النار إن لم يكن له ما يكفرها، فهذا هو الملك الذي ينبغي الإقبال على خدمته لكونه الحكم العدل القادر على الجزاء والمساواة في الجزاء، فالكافر لما كان على عزم إدامه الكفر كان عذابه دائماً, والفاسق لما كان على نية التوبة لاعتقاده أنه في معصية وشر كان عذابه منقطعاً، والآية على عمومها، وما خرج منها بدليل كان مخصوصاً فيخرج عليها جميع باب الجنايات وغيره، ومن قال: إنها في شيء معين، لزمه أن تكون مجملة، لأن ذاك المعين غير مذكور، والتخصيص أولى من الإجمال كما قال أهل الأصول.
ولما بين العدل في العقاب، بين الفضل في الثواب، تنبيهاً على أن الرحمة سبقت الغضب فقال: { ومن عمل صالحاً } أي ولو قل. ولما كان من يعهدون من الملوك إنما يستعملون الأقوياء لاحتياجهم، بين أنه على غير ذلك لأنه لا حاجة به أصلاً فقال: { من ذكر أو أنثى } ولما كان العمل لا يصح بدون الإيمان قال مبيناً شرطه: { وهو } أي عمل والحال أنه { مؤمن } ولما كان في مقام الترغيب في عدله وجوده وفضله، جعل الجزاء مسبباً عن الأعمال فقال: { فأولئك } أي العالو الهمة والمقدار { يدخلون الجنة } أي بأمر من له الأمر كله بعد أن ضاعف لهم أعمالهم فضلاً، والآية من الاحتباك: ذكر المساواة أولاً عدلاً يدل على المضاعفة ثانياً فضلاً، وذكر إدخال الجنة ثانياً يدل على إدخال النار أولاً، وسره أنه ذكر فضله في كل من الشقين { يرزقون فيها } أي من غير احتياج إلى تحول أصلاً ولا إلى أسباب، ولعل ذلك من أسرار البناء للمفعول { بغير حساب * } لخروج ما فيها بكثرته عن الحصر، فإن أدنى أهلها منزلة لو أضاف كل أهل الأرض لكفاهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، وهذا من باب الفضل، وفضل الله لا حد له، ورحمته غلبت غضبه، وأما جزاء السيئة فمن باب العدل، فلذلك وقع الحساب فيها لئلا يقع الظلم، قال الأصبهاني: فإذا عارضنا عمومات الوعيد بعمومات الوعد ترجح الوعد لسبق الرحمة الغضب، فأنهدمت قواعد المعتزلة.
ولما بلغ النهاية في نصحهم، وختم بإعلامهم بأن الناس قسمان: هالك وناج، وكان حاصل إرادتهم لأن يكون على ما هم عليه الهلاك بالنار، قال مبكتاً لهم بسوء مكافأتهم منادياً لهم مكرراً للنداء لزيادة التنبيه والإيقاظ من الغفلة. والتذكير بأنهم قومه واعضاده، وعاطفاً على ندائه السابق لأنه غير مفصل له ولا داخل في حكمه: { ويا قوم ما } أي أيّ شيء من الحظوظ والمصالح { لي } في أني { أدعوكم إلى النجاة } والجنة بالإيمان شفقة عليكم ورحمة لكم واعترافاً بحقكم { و } مالكم من ذلك في كونكم { تدعونني إلى النار * } والهلاك بالكفران، فالآية من الاحتباك: ذكر النجاة الملازمة للايمان أولاً دليلاً على حذف الجنة أولاً، ومراده هزهم وإثارة عزائمهم إلى الحياة منه بتذكيرهم أن ما يفعلونه معه ليس من شيم أهل المروءة يجازونه على إحسانه إليهم بالإساءة.
ولما أخبر بقلة إنصافهم إجمالاً، بينه بقوله: { تدعونني } أي توقعون دعائي إلى معبوداتكم { لأكفر } أي لأجل أن أكفر { بالله } أي أستر ما يجب إظهاره بسبب الذي أناله لأن له كل شيء وله مجامع القهر والعز والعظمة والكبر { وأشرك } أي أوقع الشرك { به } أي أجعل له شريكاً. ولما كان كل ما عداه سبحانه ليس له من ذاته إلا العدم، أشار إلى حقارته بالتعبير بأداة ما لا يعقل فقال: { ما ليس لي به علم } أي نوع من العلم بصلاحيته لشيء من الشركة، فهو دعاء إلى الكذب في شيء لا يحل الإقدام عليه إلا بالدليل القطعي الذي لا يحتمل نوعاً من الشرك، وإذا لم يكن به علم لم يكن له عزة ولا مغفرة، فلم يكن له وجود لأن الملك لازم الإلهية وهو أشهر الأشياء، فما ادعى له أشهر الأشياء، فكان بحيث لا يعرف بوجه من الوجوه، كان عدماً محضاً.
ولما بين أنهم دعوه إلى ما هو عدم فضلاً عن أن يكون له نفع أو ضر في جملة فعليه إشارة إلى بطلان دعوتهم وعدم ثبوتها، بين لهم أنه دعاهم إلا إلى ما له الكمال كله، ولا نفع ولا ضر إلا بيده، فقال مشيراً بالجملة الاسمية إلى ثبوت دعوته وقوتها: { وأنا ادعوكم } أي أوقع دعاءكم الآن وقبله وبعده { إلى العزيز } أي البالغ العزة الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء. ولما وصفه بهذا الوصف ترهيباً، صح قطعاً وصفه ترغيباً بقوله: { الغفار * } أي الذي يتكرر له دائماً محو الذنب عيناً وأثراً ولا يقدر على ذلك غير من هو بصفة العزة، ومن صح وصفه بهذين الوصفين فهو الذي لا يجهل ما عليه، من صفات الكمال أحد، فالآية من الاحتباك: ذكراً أولاً عدم العلم دليلاً على العلم ثانياً، وثانياً العزة والمغفرة دليلاً على حذفهما أولاً.
ولما كان انتفاء العلم بالشيء من أهل العلم انتفاء ذلك الشيء في أصول الدين، كان ما دعوه إليه باطلاً، وكان ما دعاهم إليه هو الحق، فلذلك أنتج قطعاً قوله: { لا جرم } وهي وإن كانت بمعنى: لا ظن ولا اضطراب أصلاً - كما مضى في سورة هود عليه السلام فيها معنى العلة، أي فلأجل ذلك لا شك في { أنما } أي الذي { تدعونني إليه } من هذه الأنداد { ليس له دعوة } بوجه من الوجوه، فإنه لا يقوم عليها دليل بل ولا شبهة موهمة { في الدنيا } التي هي محل الأسباب، الظاهرة لأن شيئا منه ليس له واحد من الوصفين { ولا في الآخرة } لأن ما لا تعلم إلهيته كذلك يكون { وإن } أي ولا اضطراب في أن { مردنا } أي ردنا العظيم بالموت وموضع ردنا ووقته منتهٍ { إلى الله } أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال لما اقتضته عزته، فيجازي كل أحد بما يستحقه { وأنَّ } أي ولا شك في أن { المسرفين } أي المجاوزين للحدود العريقين في هذا الوصف { هم } أي خاصة لأجل حكم الله بذلك عليهم { أصحاب النار * } أي الذين يخلدون فيها لا يفارقونها كما يقتضيه معنى الصحبة لأن إسرافهم اقتضى إسراف ملازمتهم للنار التي طبعها الإسراف، وقد علم أن ربها لا يجزي بالسيئة إلا مثلها.
ولما تقرر أنه لا أمر لغير الله وأنه لا بد من المعاد، تسبب عنه بقوله: { فستذكرون } أي قطعاً بوعد لا خلف فيه مع القرب { ما أقول لكم } حين لا ينفعكم الذكر في يوم الجمع الأعظم والزحام الذي يكون فيه القدم على القدم إذا رأيتم الأهوال والنكال والزلزال إن قبلتم نصحي وإن لم تقبلوه. ولما ذكر خوفهم الذي لا يحميهم منه شيء ذكر خوفه الذي هو معتمد فيه على الله ليحيمه منه فقال عاطفاً على "ستذكرون" غير مراعى فيها معنى السين: { وأفوض } أي أنا الآن بسبب أنه لا دعوة لغير الله { أمري } فيما تمكرونه بي { إلى الله } أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة فهو يحميني منكم: إن شاء، قال صاحب المنازل: التفويض ألطف إشارة وأوسع من التوكل بعد وقوع السبب، والتفويض قبل وقوعه وبعده، وهو عين الاستسلام، والتوكل شعبة منه، وهو على ثلاث درجات: الأولى أن تعلم أن العبد لا يملك قبل علمه استطاعة، فلا يأمن من مكر، ولا ييأس من معونة، ولا يعول على نية، والثانية معاينة الاضطرار فلا ترى عملاً منجياً ولا ذنباً مهلكاً ولا سبباً حاملاً، والثالثة شهود انفراد الحق بملك الحركة والسكون والقبض والبسط والتفريق والجمع.
ولما علق تفويضه بالاسم العلم الجامع المقتضي للإحاطة، على ذلك بياناً لمراده بقوله مؤكداً لأن عملهم في مكرهم به عمل من يظن أن سبحانه لا يبصرهم ولا ينصره { إن الله } وكرر الاسم الأعظم بياناً لمراده بأنه { بصير } أي بالغ البصر { بالعباد * } ظاهراً وباطناً، فيعلم من يستحق النصرة لاتصافه بأوصاف الكمال ويعلم من يمكر فيرد مكره عليه بما له من الإحاطة.