خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٧
وَنَجَّيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ
١٨
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ
١٩
حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٢٠
وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢١
-فصلت

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أنهى أمر صاعقتهم، شرع في بيان صاعقة ثمود فقال: { وأما ثمود } وهم قوم صالح عليه الصلاة والسلام { فهديناهم } أي بينا لهم طريق الهدى من أنا قادرون على البعث وعلى كل شيء فلا شريك لنا، وكان بيان ذلك بالناقة غاية البيان فأبصروا ذلك بأبصارهم التي هي سبب أبصار بصائرهم غايه الإبصار، فكرهوا ذلك لما يلزمه من تنكب طريق آبائهم وأقبلوا على لزوم طريق آبائهم: { فاستحبوا العمى } اي الضلال الناشئ عن عمى اليصر أو البصيرة أو هما معاً { على الهدى } أي أوجدوا من الأفعال والأقوال ما يدل على حب ذلك وعلى طلب حبه فعموا فضلوا، وقال القشيري: قيل: إنهم آمنوا وصدقوا ثم ارتدوا وكذبوا، فأجراهم مجرى إخوانهم في الاستئصال. { فأخذتهم } أي بسبب ذلك أخذ قسر وهوان { صاعقة العذاب } وأبلغ في وصفه بجعله نفس الهون فقال: { الهون } أي ذي الهون، قامت ضمته مقام ما في الهوان من الصيغة فعلم أن المراد أنه المهين المخزي { بما كانوا } أي دائماً { يكسبون * } أي يتجدد تحصيلهم له وعدهم له فائدة، فالآية من الاحتباك: ذكر الهداية أولاً دليلاً على حذف الضلال ثانياً والعمى ثانياً دليلاً على حذف الإبصار أولاً، وسره أنه نسب إليه أشرف فعليه، وأسند إليهم ما لا يرضاه ذو الروح.
ولما أتم الخبر عن الكافرين من الفريقين، أتبعه الخبر عن مؤمنيهم بشارة لمن اتبع النبي صلى الله عليه وسلم ونذارة لمن صد عنه فقال: { ونجينا } أي تنجية عظيمة { الذين آمنوا } أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى وجوهه من الفريقين { وكانوا } أي كوناً عظيماً { يتقون* } أي يتجدد لهم هذا الوصف في كل حركة وسكون فلا يقدمون على شيء بلا دليل.
ولما ذكر حالهم في الدنيا، وأشار إلى حال الآخرة، أتبعه تفصيل ذلك فقال: { ويوم } أي اذكر أيام أعداء الله في الدنيا في إنزال عذابه بهم وإحلال مثلاته بساحاتهم، واذكر يوم يحشرون - هكذا كان الأصل، ولكنه بين ما عذبوا به ليعم كل من اتصف به من الأولين والآخرين فقال: { يحشر } أي يجمع بكثرة بأمر قاهر لا كلفة علينا فيه - هذا على قراءة الجماعة بالبناء للمفعول، وعلى قراءة ناقع ويعقوب بالنون مبنياً للفاعل يكون ناظراً إلى سياق "ونجينا" وفي كلتا القراءتين معنى العظمة، فلذلك ناسبهما الاسم الأعظم الذي هو أعظم من مظهر العظمة الذي وقع الصرف عنه لما في ذكره من زيادة التوبيخ لهم والتهجين لفعلهم والتخسيس لعقولهم في قولهم: { أعداء الله } أي الملك الأعظم ولا يخفى إعرابه بحسب كل قراءة { إلى النار } دار الأشقياء { فهم } بسبب حشرهم { يوزعون * } أي يدفعون ويرد بأيسر أمر أولهم على آخرهم، ومن يريد أن يعرج منهم يميناً أو شمالاً ظناً منه أنه قد يخفى بسبب كثرتهم ويزجرون زجر إهانة، ويجمع إليهم من شذ منهم،ة فإن كل شيء من ذلك نوع من العذاب.
ولما بين إهانتهم بالوزع، بين غاياتها فقال: { حتى إذا } وأكد الكلام لإنكارهم مضمونه بزيادة النافي ليكون اجتماعه مع الإثبات نفياً للضد فيفيد غاية القوة بمضمون الخبر في تحقيقه وثباته واتصاله بالشهادة على الفور فقال: { ما جاؤوها } أي النار التي كانوا بها يكذبون { شهد عليهم } حين التكوير فيها مركومين بعضهم على بعض. ولما كان في مقام الترهيب، وكان التفصيل أهول قال: { سمعهم } أفرده لتقارب الناس فيه { وأبصارهم } جمع لعظم التفاوت فيها { وجلودهم بما } وأثبت الكون بياناً لأنهم كانوا مطبوعين على ما أوجب لهم النار من الأوزار فقال: { كانوا يعملون * } أي يجددون عمله مستمرين عليه، فكأن هذه الأعضاء تقول في ذلك الحين إقامة للحجة البالغة: أيها الأكوان والحاضرون من الإنس والملائكة والجان، اعلموا أن صاحبي كان يعمل بي كذا وكذا مع الإصرار، فاستحق بذلك النار، وغضب الجبار - ثم يقذف به.
ولما أخبر بهذا الذي يفتت الحجارة لو علقت ساعة ما، أخبر أنه لم يفدهم الرجوع عن طبعهم الجافي وبلادتهم الكثيفة، فقال عاطفاً على ما تقديره: فلم تفدهم هذه الشهادة خجلاً من الله ولا خضوعاً في أنفسهم ولا رجوعاً عن الجدال والعناد كما لم يفدهم ذلك مجرد علم الله فيهم: { وقالوا لجلودهم } ودخل فيها ما صرح به من منافعها بها لفقد ما يدعو إلى التفصيل. ولما فعلت فعل العقلاء خاطبوها مخاطبتهم فقالوا: { لم شهدتم علينا }.
ولما كان هذا محل عجب منهم، وكان متضمناً لجهلهم بظنهم أنه كان لها قدرة على السكوت، وكان سؤالهم عن العلة ليس على حقيقته وإنما المراد به اللوم، أجيب من تشوف إلى الجواب بقوله معبراً لنطقها بصيغة ما يعقل: { قالوا } معتذرين: { أنطقنا } قهراً { الله } الذي له مجامع العز على وجه لم نقدر على التخلف عنه. ولما كان حال الكفار دائماً دائراً بين غباوة وعناد، أقاموا لهم على ذلك دليلين شهوديين فقالوا: { الذي أنطق كل شيء } أي فعلاً أو قوة أو حالاً ومقالاً.
ولما كانت الأشياء كلها متساوية الأقدام في الإنطاق والإخراس وغيرهما من كل ما يمكن بالنسبة إلى قدرته سبحانه، نبهوهم على ذلك بقولهم: { وهو خلقكم أول مرة } والعلم القطعي حاصل عندكم بأنكم كنتم عدماً ثم نطفاً لا تقبل النطق في مجاري العادات بوجه، ثم طوركم في أدوار الأطوار كذلك إلى أن أوصلكم إلى حيز الإدراك، فقسركم على النطق بحيث لو أردتم سلبه عن أنفسكم ما قدرتم. ولما كان الخلق شيئاً واحداً فعبر عنه بالماضي وكان الرجوع تارة بالحس وتارة بالمعنى وكان الذي بالمعنى كثير التعدد بكثرة التجدد قال: { وإليه } أي إلى غيره { ترجعون * } أي في كل حين بقسركم بأيسر أمر على كل ما يريد من أول ما خلقتم إلى ما لا نهاية له، فلو كان لكم نوع علم لكفاكم ذلك واعظاً في الدنيا تعلمون به أنكم في غاية العجز، وأن له العظمة والكبر والقدرة والقهر، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"هل تدرون ممّ أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنا أناضل" .