خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
٥٢
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
٥٣
أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ
٥٤
-فصلت

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكر سبحانه من أحوالهم المندرجة في أحوال هذا النوع كله ما هو مكشوف بشاهد الوجود من أنه لا ثبات لهم لا سيما عند الشدائد إعلاماً بالعراقة في الجهل والعجز، دل على الأمرين معا بما لا يمكن عاقلاً دفعه من أنهم لا يجوزون الممكن فيعدون له ما يمتعه على تقدير وقوعه، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يذكر ذلك إيذاناً بالإعراض عنهم دليلاً على تناهي الغضب: { قل أرأيتم } أي أخبروني { إن كان } أي هذا القرآن الذي نصبتم لمغالبته حتى بالإعراض عن السماع باللغو حال قراءته من الصفير والتصفيق وغير ذلك، وليس ذلك منكم صادراً عن حجة قاطعة في أمره أتم معها على يقين بل هو عن خفة وعدم تأمل منكم أنه { من عند الله } الذي له الإحاطة بجميع صفات الجلال والجمال فهو لا يغالب.
ولما كان الكفر به على هذا التقدير في غاية البعد، وكان مقصود السورة دائراً على العلم، نبه على ذلك بأداة التراخي مع الدلالة على أن ذلك ما كان منهم إلا بعد تأمل طويل، فكانوا معاندين حتى نزلوا بالصفير والتصفيق من أعلى رتب الكلام إلى أصوات الحيوانات العجم فقال: { ثم كفرتم به } أي بعد إمعان النظر فيه والتحقق لأنه حق، فكنتم بذلك في شقاق هو في غاية البعد من الملائمة لمن لم يزل يستعطفكم بجميل أفعاله، ويردكم بجليل أقواله وآمن به غيركم لأنه من عند الله { من أضل } منكم - هكذا كان الأصل ولكنه قال: { ممن هو في شقاق } أي لأولياء الله { بعيد * } تنبيهاً على أنهم صاروا كذلك، وأن من صار كذلك فقد عرض نفسه لسطوات الله وتعالى التي من واقعته هلك لا محالة، ومن أهدى ممن هو في إسلام قريب وهو الذي آمن لأنه سالم الله الذي من سالمه سالمه كل شيء، فنجا من كل خطر - فالآية من الاحتباك: ذكر الكفر أولاً دليلاً على الإيمان ثانياً، والضلال ثانياً دليلاً على الهدى أولاً، وسره أن ذكر المضار أصدع للقلب فهو أنفع في الوعظ.
ولما كان هذا محزناً للشفوق عليهم لإفهامه لشدة بعدهم عن الرجوع، قال منبهاً على أنه إذا أراد سبحانه قرب ذلك منهم غاية القرب لافتاً القول إلى مظهر العظمة إيذاناً بسهولة ذلك عليه: { سنريهم } أي عن قرب بوعد لا خلف فيه { آياتنا } أي على ما لها من العظمة { في الآفاق } أي النواحي، جمع أفق كعنق وأعناق، أبدلت الهمزة الثانية ألفاً لسكونها بعد مثلها، أي وما ظهر من نواحي الفلك أو مهب الرياح، وذلك بما يفتح الله من البلاد بغلب أهلها بوقائع كل واحد منها علم من أعلام النبوة، وشاهد عظيم كاف في صحة الرسالة، تصديقاً لوعده سبحانه وما أهلك من أهلها لنصر أنبيائه ورسله وبما فيها من عجائب الصنع وغرائب الآثار والوضع باختلاف الأحكام مع اتفاق جواهرها في التجانس - وغير ذلك من الآيات بالبصر اللاتي يشرحها بآيات السمع.
ولما كان الإيمان بالغيب هو المعتبر، وكل ما كان أقرب إليه كان أقرب إلى الكمال، وكانت آيات الآفاق أقرب إلى ذلك، بدأ بها، ثم قال: { وفي أنفسهم } أي من فتح مكة وما أصابهم من سني الجوع وقصة أبي بصير ونحو ذلك, وتفصل لهم مع ذلك ما في الآدمي نفسه من بدائع الآيات وعجائب الخلق وغرائب الصنعة وما فيه من أمارات الحدوث واختلاف الأوصاف وغير ذلك من الشواهد المطابقة لما تضربه من الأمثال والدلائل المعقولة عند اعتبار الأقوال والأفعال، وبما في بلاد العرب من الآيات المرئية من نفي بعد إسراعهم إليه وإطباقهم عليه وإثبات التوحيد عند جميعهم بعد إبعادهم عنه وقتالهم الداعي إليه، وقد بين سبحانه في هذه من آيات الآفاق في آية { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } وما شاكلها، وفي الأنفس في آيات { فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود والذي من بعدهم } ونحوها، وآيات { لا يسئم الإنسان من دعاء الخير } إلى آخرها الدالة على أن الإنسان مبني أمره على الجهل والعجز، فأكثر ما يتصوره ليس كما تصوره، فعليه أن يتأمل كتاب ربه ويتدبره - والله أعلم، قال الرازي في اللوامع: الاستدلال بالأفعال على فاعلها واضح وطريق لائح، والأفعال على قسمين أحدهما الآفاق وهو جملة العالم، والثاني النفوس، فإن من عرف نفسه عرف ربه, أي من عرف روحه وكونها جوهراً متصرفاً في البدن تصرف التدبير وعلم صفاتها من أنها باقية بغير البدن لا يحتاج في قوامها إلى البدن, بل البدن محتاج إليها وأنها محل المعرفة فمن عرف أمثال هذه المعارف عرف ربه وصفاته من وحدانيته وعلمه وقدرته وإرادته وتصرفه في جملة العالم يعني وأن وجوده تعالى مباين وجود غيره.
ولما كان التقدير: ولا نزال نواتر ذلك شيئاً في أثر شيء، عطف عليه قوله: { حتى يتبين لهم } غاية البيان بنفسه من غير إعمال فكر { أنه } أي القرآن { الحق } الكامل في الحقية الذي تطابقه الوقائع وتصادقه الأحوال العارضة والصنائع، فيجتعوا عليه ويُقبلوا بكل قلوبهم إليه، فلا يأباه في جزيرة العرب إنسان، ولا يختلف فيه منهم اثنان، ثم ينبثون في أرجاء الأرض بطولها والعرض فيظهر بهم على سائر الأديان، ويبيد على أيديهم أهل الكفران، في سائر البلدان، ويزول كل طغيان، فيكون ظهورهم في هذا الوقت وضعف المؤمنين بعد أن كان سبباً لازديادهم من الكفر عظة لهم ولكل من يأتي بعدهم يوجب الثبات في محال الزلزال علماً بأن الله أجرى عادته أن يكون للباطل ريح تخفق ثم تسكن، ودولة تظهر ثم تضمحل، وصولة تجول ثم تحول.
ولما كان هذا القول منبهاً على أن في الآفاق والأنفس من الآيات المرئية التي يقرأها أولو الأبصار بالبصائر، ويتأملها بأعين السرائر، أمراً لا يحيط به الوصف، فكان حادياً على تجريد الأفكار للنظر والاعتبار، والوقوف على بعض ما في ذلك من لطائف الأسرار، كان كأنه قيل: ألم يروا بعقولهم ما في ذلك من الأدلة على أن القرآن من عند الله فيكفيهم عن شهادة شيء خارج عن أنفسهم، عطف عليه قوله: { أو لم يكف } وأكد بإدخال الجار، وحقق الفاعل فقال مؤكداً بالباء ومحققاً أنه الفاعل صارفاً القول إلى وصف الإحسان إيذاناً بالرفق بهم بردِّهم إليه دون ارتكابهم ما يوجب نكالهم وإهلاكهم واستئصالهم: { بربك } أي المحسن إليك بهذا البيان المعجز للإنس والجان شهادة بأنه من عنده { أنّه } أي أو لم يكف شهادة ربك لأنه { على كل شيء شهيد * } لا يغيب عنه شيء من الأشياء، لا هذا القرآن ولا غيره، وقد شهد لك فيه بإعجازه لجميع الخلق بكل ما تضمنته آياته، ونطقت به كلماته، ففيه أعظم بشارة بتمام أمر الدين وظهوره على المعتدين، وذلك لأن كل أحد يجد في نفسه أنه إذا أراد ثبوت حق ينكره من هو عليه لصاحب الحق من الشهود ما يتحقق قولهم فيه ووصوله بهم إليه أنه يكون مطمئناً لا ينزعج بالجحد علماً منه بأن حقه لا بد أن يظهر ويخزي معانده ويقهر، وفي هذا تأديب لكل من كان على حق ولا يجد من يساعده على ظهوره فإن الله شاهده فلا بد أن يظهر أمره فتوكل على الله إنك على الحق المبين.
ولما لم يبق بعد هذا لمتعنت مقال، ولا شبهة أصلاً لضال، كان موضع المناداة على من استمر على عناده بقوله مؤكداً لادعائهم إنهم على جلية من أمرهم، { ألا إنهم } أي الكفرة { في مرية } أي جحد وجدال وشك وضلال عن العبث { من لقاء } وصرف القول إلى إضافة وصف الإحسان إليهم إشارة إلى أنه لا بد من كمال تربيتهم بالبعث لأنه أحكم الحاكمين فقال: { ربهم } أي المحسن إليهم بأن خلقهم ورزقهم للحساب والجزاء بالثواب والعقاب كما هو شأن كل حكيم فيمن تحت أمره.
ولما كانوا مظهرين الشك في القدرة على البعث، قرره إيمانهم معترفون به من قدرته على كل شيء من البعث وغيره فقال: { ألا إنه } أي هذا المحسن إليهم { بكل شيء } أي من الأشياء جملها وتفاصيلها كلياتها وجزئياتها أصولها وفروعها غيبتها وشهادتها ملكها وملكوتها { محيط * } قدرة وعلماً من كثير الأشياء وقليلها كليها وجزئيها، فعما قليل يجمعهم على الحق ويبدلهم بالمرية إذعاناً وبالشك يقيناً وبرهاناً، فرحمته عامة لجميع أهل الوجود وخاصة لمن منَّ عليه الإيمان الموصل إلى راحة الأمان، فكيف يتصور في عقل أن يترك البعث ليوم الفصل الذي هو مدار الحكمة، ومحط إظهار النعمة والنقمة، وقد علم بذلك انطباق آخرها المادح للكتاب المقرر للبعث والحساب على أولها المفصل للقرآن المفيض لقسمي الرحمة: العامة والخاصة لأهل الأكوان، على ما اقتضاه العدل والإحسان، بالبشارة لأهل الإيمان، والنذارة لأهل الطغيان - والله الهادي وعليه التكلان.