خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
٧
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
٨
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٩
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ
١٠
ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ
١١
فَقَضَٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ
١٢
-فصلت

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كانت العقول والشرائع ناطقة بأن خلاصة السعادة في أمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، وكان أفضل أبواب التعظيم لأمر الله الإقرار بوحدانيته، فكان أخس الأعمال التي بين العبد وربه الإخلال بذلك، وكان أخس الأعمال التي بين العبد وبين الخلق منع ما أوجبه الله من الزكاة، وكان معنى الشرك الحكم بأن ما لا شيء له أصلاً وما لا يمكن أن يكون له ملك تام على شيء أصلاً قد شارك من له الكل خلقاً وتصرفاً فيما هو عليه من الملك التام الذي لا شوب فيه، وكانت الزكاة إشراك من له ملك غير تام لمثله في جزء يسير من ماله. قال ذاماً لمن أبى أن يشارك الخلائق وأشرك بالخالق: { الذين لا يؤتون } أي أمثالهم من أولاد آدم { الزكاة } من المال الذي لا صنع لهم في خلقه، فهو مخلف عن أبيهم آدم، فالقياس يقتضي اشتراكهم كلهم فيه على حد سواء، ولكنا رحمناهم بتخصيص كل واحد منهم بما ملكت يمينه منه بطريقه، فقد حكموا في أمر ربهم بما لا يرضونه لأنفسهم، فإنهم أبوا أن يشركوا ببذل الزكاة بعض أخوانهم في بعض مالهم الذي ملكهم له ضعيف، وأشركوا ما لا يملك شيئاً أصلاً بما لا نفع مع المالك المطلق.
ولما كان مما تضمنه إشراكهم وإنكارهم البعث أنهم أداهم شحهم إلى استغراقهم في الدنيا والإقبال بكلياتهم على لذاتها، فأنكروا الآخرة، فصار محط حالهم أنهم أثبتوا لمن لا فعل أصلاً فعلاً لا يمكنه تعاطيه بوجه، ونفوا عن الفاعل المختار الذي هم لأفعاله الهائلة في كل وقت يشاهدون، وإليه في منافعهم ومضارهم يقصدون، ما أثبت لنفسه من فعله، فقال مؤكداً تنبيهاً على أن إنكارهم هذا مما لا يكاد يصدق: { وهم بالآخرة } أي الحياة التي بعد هذه ولا بعد لها { هم } أي بخاصة من بين أهل الملل { كافرون * } فاختصموا بإنكار شيء لم يوافقهم عليه أحد في حق من يشاهدون في كل وقت من أفعاله أكثر من ذلك، وأثبتوا لمن لم يشاهدوا له فعلاً قط ما لا يمكنه فعله أصلاً، وهم يدعون العقول الصحيحة والآراء المتينة ورضوا لأنفسهم بالدناءة في منع الزكاة وحكموا بأعظم منها على الله وهم يدعون مكارم الأخلاق ومعالي الهمم، فأقبح بهذه عقولاً وأسفل بها همماً فقد تضمنت الآية أن الويل لمن اتصف بصفات ثلاثة: الشرك الذي هو ضد التعظيم لأمر الله، والامتناع من الزكاة الذي هو ضد الشفقة على خلق الله وإنكار القيامة المؤدي إلى الاستغراق فيما أبغض الله من طلب الدنيا ولذاتها وهو من الاستهانة بأمر الله، قال الأصبهاني: وتمام الكلام في أنه لا زيادة على هذه المراتب الثلاثة أن الإنسان له ثلاثة أيام: أمس واليوم والغد، فمعرفة أنه كيف كانت أحواله بالأمس في الأزل هو بمعرفة الخالق لهذا العالم, ومعرفة كيف ينبغي وقوع الأحوال في الاليوم الحاضر هو بالإحسان إلى أهل العلم بقدر الطاقة، ومعرفة الأحوال في اليوم المستقبل بالإقرار بالبعث والقيامة، فإذا كان الإنسان على ضد الحق في هذه المراتب الثلاثة كان في نهاية الجهل والضلال.
ولما ذكر ما للجاهلين وعيداً وتحذيراً، ذكر ما لأضدادهم وعداً وتبشيراً، فقال مجيباً لمن تشوف لذلك مؤكداً لإنكار من ينكره: { إن الذين آمنوا } أي بما آتاهم الله من العلم النافع { وعملوا الصالحات } من الزكاة وغيرها ليكون عملهم شرعياً نافعاً، ولما كان افتتاح السورة بالرحمن الرحيم مشعراً بأن الأسباب الظاهرية انمحت عند السبب الحقيقي الذي هو رحمته، أعرى الخبر عن الفاء، فقال إيذاناً بعظم الجزاء لأن سببه رحمة الرحيم، ولو كان بالفاء لآذنت أنه على مقدار العمل الذي هو سببه: { لهم أجر } أي عظيم { غير ممنون * } أي مقطوع - جزاء على سماحهم بالفاني اليسير من أموالهم في الزكاة وغيرها وما أمر الله به من أقوالهم وأفعالهم في الآخرة والدنيا، والممنون: المقطوع من مننت الحبل أي قطعته بقطع مننه ومنه قولهم: قد منه السفر أي قطعه وأذهب منته.
ولما ذكر سبحانه سفههم في كفرهم بالآخرة، شرع في ذكر الأدلة على قدرته عليها وعلى كل ما يريد بخلق الأكوان وما فيها الشامل لهم ولمعبوداتهم من الجمادات وغيرها الدال على أنه واحد لا شريك له، فقال منكراً عليهم ومقرراً بالوصف لأنهم كانوا عالمين بأصل الخلق: { قل } أي لمن أنكر الآخرة منكراً عليه بقولك: { أئنكم } وأكد لإنكارهم التصريح بما يلزمهم من الكفر { لتكفرون } أي توجدون حقيقة الستر لأنوار العقول الظاهرة { بالذي خلق الأرض } أي على سعتها وعظمتها من العدم { في يومين } فتنكرون قدرته على إعادة ما خلقه منها ابتداء مع اعترافكم بأنه ابتدأ خلقها وخلق ذلك منها، وهذان اليومان الأحد والاثنين - نقل هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما وعبد الله بن سلام رضي الله عنه - قال ابن الجوزي: والأكثرين، وحديث مسلم الذي تقدم في سورة البقرة
"خلق الله التربة يوم السبت" يخالف هذا، فإن البداءة فيه بيوم السبت وهو مصرح بأن خلق الأرض وما فيها في ستة أيام كما هو ظاهر هذه الآية، ويجاب بأن المراد بالخلق فيه إخراج أقواتها بالفعل، والمراد هنا تهيئتها لقبول ذلك، ويشكل أيضاً بأن الأيام إنما كانت بدوران الأفلاك، وإنما كان ذلك بعد تمام الخلق بالفعل، فالظاهر أن المراد باليوم ما قال الحرالي: مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر أو مقدار يومين تعرفونها من أيام الدنيا. ولما ذكر كفرهم بالبعث وغيره، عطف على { تكفرون } قوله: { وتجعلون } أي مع هذا الكفر { له أنداداً } مما خلقه، فتثبتون له أفعالاً وأقوالاً مع أنكم لم تروا شيئاً من ذلك، فأنكرتم ما تعلمون مثله وأكبر منه، وأثبتّم ما لم تعلموه أصلاً، هذا هو الضلال المبين. ولما بكتهم على قبيح معتقدهم، عظم ذلك بتعظيم شأنه سبحانه فقال: { ذلك } أي الإله العظيم { رب العالمين * } أي موجدهم ومربيهم، وذلك يدل قطعاً على جميع ما له من صفات الكمال.
ولما ذكر ما هم به مقرون من إبداعها، أتبعه ما جعل فيها من الغرائب، فقال عاطفاً على ما تقديره: أبدع الأرض على ما ذكر: { وجعل } ولا يجوز عطفه على صلة الموصول للفصل بأجنبي { فيها رواسي } هي أشدها وهي الجبال، ونبه على أنها مخالفة للرواسي في كونها تحت ما يراد إرساؤه فقال: { من فوقها } فمنعتها من الميد، فعل ذلك لكونه أدل على القدرة، فإنها لو كانت من تحت لظن أنها، أساطين حاملة، ولتظهر منافع الجبال بها أنفسها وبما فيها، ويشاهد أنها أثقال مفتقرة إلى حامل. ولما هيأها لما يراد منها، ذكر ما أودعها فقال: { وبارك فيها } أي جعلها قابلة ميسرة صالحة بالأقوات والنافع من الذوات والمعاني المعينة على محاسن الأعمال الميسرة للسير إليه والإقبال عليه، ودالة على جميع صفاته الحسنى وأسمائه العلى وغير ذلك من المعارف والقدر والقوى { وقدر فيها أقواتها } أي جعلها مع البركة على مقدار لا تتعداه، ومنهاج بديع دبره في الأزل وارتضاه، وقدره فأمضاه، ومن ذلك أنه خص بعض البلاد بشيء لا يوجد في غيرها لتنظيم عمارة الأرض كلها باحتياج بعضهم إلى بعض، فكان جميع ما تقدم من إيداعها وإيداعها ما ذكر من متاعها، دفعة واحدة لا ينقص عن حاجة المحتاجين أصلاً، وإنما ينقص توصلهم أو توصل بعضهم إليه فلا يجد له حينئذ ما يكفيه، وفي الأرض أضعاف كفايته، ثم ذكر فذلكة خلق الأرض وما فيها فقال: { في أربعة أيام } وهذا العدد عن ضم اليومين الماضيين إلى يومي الأقوات وهما الثلاثاء والأربعاء، أو يكون المعنى في تتمته أربعة أيام، ولا يحمل على الظاهر ليكون ستة لأنه سيأتي للسماوات يومان فكانت تكون ثمانية، فتعارض آية { الم السجدة } { الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام } وفصل مقدار ما خلقها فيه ومقدار ما خص الأقوات والمنافع لإحاطة العلم بأنه يخص كل أمر من الأمرين يومان، ونص على الأولين ليكون ذلك أدل على القدرة فيحسن موقع النعي عليهم بما فصل به الآيتين من اتخاذ الأنداد، وإنما كان أدل على القدرة، لأنه إيجاد ذوات محسوسة من العدم قائمة بأنفسها بخلاف البركة، وتقدير الأقوات فإنه أمر لا يقوم بنفسه، فلم يفرد يوميه بالذكر، بل جعلهما تابعين كما أن ما قدر فيهما تابع، ولم يفعل ذلك في أقل من لمح البصر مع تمام القدرة عليه، لأن هذا أدل على الاختيار وأدخل في الابتلاء والاختيار، ليضل به كثيراً ويهدي به كثيراً، فيكون أعظم لأجورهم لأنه أدل على تسليمهم، وجعل مدة خلقها ضعف مدة السماء مع كونها أصغر من السماء دلالة على أنها هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين، فزادت بما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها، والاعتناء بشأنهم وشأنها، وزادت أيضاً بما فيها من الابتلاء بالتهيئة للمعاصي والمجاهدات والمعالجات التي يتنافس فيها الملأ الأعلى ويتخاصم - كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة بل لأجل التنبيه على ما في المقدر من المقدور وعجائب الأمور، وليعلم أيضاً بخلق السماء التي هي أكبر جرماً وأتقن جسماً وأعظم زينة وأكثر منافع بما لا يقايس في أقل من مدة خلق الأرض أن خلقها في تلك المدة ليس للعجز عن إيجادها في أقل من اللمح، بل لحكم تعجز عن حملها العقول، ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت تنبيهاً على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليماً للتأني وتدريباً على السكينة والبعد من العجلة.
ولما كان لفظ { سواء } الذي هو بمعنى العدل الذي لا يزيد عن النصف ولا ينقص يطلب اثنين، تقول: سواء زيد وعمرو { إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } قال تعالى مزيلاً لما أوهمه قوله: { أربعة أيام } من أنها للأقوات والبركة ليكون مع يومين من الأرض ستة، ناصباً على المصدر: { سواء } أي التوزيع إلى يومين ويومين على السواء { للسائلين * } أي لمن سأل أو كان بحيث يسأل ويشتد بحثه بسؤال أو نظر عن التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين غيرها، لا بد في كل يوم منها من زيادة عن الذي قبله أو نقص، ومجموع الأربعة كأربعة من أيام الدنيا لا تزيد عليها ولا تنقص، وقراءة يعقوب بجر "سواء" معينة لأن تكون نعتاً لـ "أربعة" وقراءة أبي جعفر بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، وعن خلقها وتتميمها في أربعة أيام كانت فصولها أربعة، قال ابن برجان: ألا ترى الأمر إلى السماء أولاً في إنزال الماء فيخلقه فيما هنالك ثم ينزله إلى الأرض والنبات والحيوان عن الماء الذي ينزل من السماء إلى الأرض بمنزلة النسل بين الذكر والأنثى وبمنزلة تسخير السماء والأرض وما بينهما لما وجدنا له فافهم - أمر قويم وحكمة شائعة آية ذلك قضاؤه بركات الأرض في أربعة أيام بواسطة ما قدر في السماء من أمر وهي الأربعة الفصول من السنة. الشتاء الربيع الصيف والخريف، فهذه الأيام معلومة بالمشاهدة، فيهن يتم زرع الأرض وبركات الدنيا وجميع ما يخرجه منها من فؤائد وعجائب، قال: وقوله "للسائلين" تعجيب وإغراب وتعظيم للمراد المعنى بالخطاب، وقد يكون معنى السواء زائداً إلى ما تقدم أن بهذه الأربعة الأيام استوت السنة مطالعها ومغاربها وقربها وبعدها وارتفاعها ونزولها في شمالي بروجها وجنوبيها باحكام ذلك كله وتوابعه - انتهى. ولما كانت السماوات أعظم من الأرض في ذاتها بنور أبنيتها واتساعها وزينتها ودوران أفلاكها وارتفاعها، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي، ولفظ الاستواء وحرف الغاية الدال على عظيم العناية فقال: { ثم استوى } أي قصد قصداً هو القصد منتهياً قصده { إلى السماء وهي } أي والحال أنها { دخان } بعد ما فتقها من الأرض، قالوا: كان ذلك الدخان بخار الماء فهو مستعار من المرتفع من النار، وهو تشبيه صوري، فالسماء متقدمة في الدخانية على الأرض، تقدم الذكر على الأنثى ثم خلقت ذات الأرض وبعد تصوير السماء وتتميمها دحيت أنثى الأرض وسويت لذكر السماء, قال ابن برجان: فالذي يعتقد أن السماء أولاً إيجاداً وتتميماً والأرض بعدها إيجاداً ورتبة, وأيام الخلق يومان لإيجاد الأرض ويومان لتسوية السماء بعد أن كانت دخاناً، ويومان لتتميم المنافع فتداخلت الأعداد لتداخل الأفعال، { فقال لها } أي عقب هذا الاستواء { وللأرض } بعد خلقها وقبل دحوها: { ائتيا } أي تعاليا وأقبلا مواتيتين مقارنتين لما قدرته فيكما وأردته منكما من إخراج المنافع من المياه والنبات والمعادن وغيرها، ووضع المصدر موضع الحال مبالغة فقال: { طوعاً أو كرهاً } أي طائعتين أو كارهتين في إخراج ما أودعتكما من الأمانة في أوقاتها وعلى ما ينبغي من مقاديرها وهيآتها طوع تسخير لا تكليف { قالتا أتينا } أي نحن وما فينا ما بيننا.
ولما جعلهما موضع المخاطبة للتي هي للعقلاء والتكلم، قال جامعاً لهما باعتبار أفرادهما وما فيهما جمع من يعقل: { طائعين * } أي في كل ما رسمته فينا لا نحمل من ذلك شيئاً بل نبذله على ما أمرت به لا نغير ولا نبدل، وذلك هو بذلهما للأمانة، وعدم حملها، وجمع الأمر لهما في الإخبار لا يدل على جمعه في الزمان، بل قد يكون القول لهما متعاقباً { فقضاهن } أي خلقهن وصنعهن حال كونهن معدودات { سبع سماوات } صنعاً نافذاً هو كالقضاء لا تخلف فيه { في يومين } أي الخميس والجمعة إذا حسب مقدار ما يخصهن من التكوين في الستة الأيام التي كان فيها جميع الخافقين، وما بينهما كان بمقدار ما خص واحداً من الأرض ومن أقواتها لا يزيد على مدة منهما ولا ينقص، فيكون الذي خصهما ثلث المجموع، قال ابن جرير: وإنما سمي يوم الجمعة لأن الله تعالى جمع فيه خلق السماوات والأرض. يعني فرغ من ذلك وأتمه { وأوحى } أي ألقى بطريق خفي وحكم مبتوت قوي { في كل سماء أمرها } أي الأمر الذي دبرها ودبر منافعها به على نظام محكم لا يختل، وزمام مبرم لا ينحل.
ولما عم، خص ما للتي تلينا إشارة إلى تشريفنا، فقال صارفاً القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على ما في هذه الآية من العظم: { وزينّا } أي بما لنا من العظمة { السماء الدنيا } أي القربى إليكم لأجلكم { بمصابيح } من زواهر النجوم، وشفوفها عنها لا ينافي أن تكون في غيرها مما هو أعلى منها، ودل السياق على أن المراد: زينة { و } حفظناها بها { حفظاً } من الشياطين، فالآية من الاحتباك: حذف فعل الحفظ بدلالة المصدر، ومصدر الزينة بما دل عليه من فعلها.
ولما كان هذا أمراً باهراً، نبه على عظمته بقوله صارفاً الخطاب إلى صفتي العز والعلم إعلاماً بأنهما أساس العظمة ومدارها: { ذلك } أي الأمر الرفيع والشأن البديع { تقدير العزيز } الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء { العليم * } المحيط علماً بكل شيء وكما قدر سبحانه ذلك بعزته وعلمه قضى أنه لا يفيد العز الدائم إلا ما شرعه من العلم، وفي ختمه بالوصفين بشارة للأمة التي خوطبت بهما أنه يوتيها من عزه وعلمه لا سيما بالهبة وما شاكلها من الطبائع وغيرها ما لم يؤت أمه من الأمم قبلها، وسر خلقه سبحانه العالم في مدة ولم يكن قي لمحة وجعلها ستة لا أقل ولا أكثر أنه لو خلقه في لمحة لكان ذلك شبهة لمن يقول: إنه فاعل بالذات لا بالاختيار، فاقتضى الحال عدداً، ثم اقتضى الحال أن يكون ستة لأنها أول عدد يدل على الكمال لأنها عدد تام كسورها لا تزيد عنها ولا تنقص، فآذن ذلك بأن للفاعل نعوت الكمال وأوصاف التمام والتعال، ولم يخلقه فيما دون ذلك من العدد لأنه ناقص، وخلق الأرض في يومين مكررين باعتبار الذات والمنافع إيذاناً بما يقع فيها من المعصية بالشرك الذي هو تثنية وإفك، ولم يكرر في السماء لأن آياتها أدل على التوحيد ولم يحصل من أهلها ما يدل على الوعيد، وليكون إيجادها في أقل من مدة الأرض - مع أنها أكبر جرماً وأعجب صنعاً وأتقن جسماً - أدل على الفعل بالاختيار بعجائب الحكم وغرائب الأسرار الكبار.