خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ
١٩
وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ
٢٠
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ
٢١
بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ
٢٢
وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ
٢٣
-الزخرف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان ربما ظن أن المحذور إنما هو جعلهم عيهم السلام إناثاً بقيد النسبة إليه سبحانه، نبه على أن ذلك قبيح في نفسه مطلقاً لدلالته على احتقارهم وانتقاصهم فهو كفر ثالث إلى الكفرين قبله: نسبة الولد إليه سبحانه ثم جعل أخص النوعين، فقال: { وجعلوا } أي مجترئين على ما لا ينبغي لعاقل فعله { الملائكة الذين هم } متصفون بأشرف الأوصاف أنهم { عباد الرحمن } العامة النعمة الذي خلقهم فهم بعض من يتعبد له وهم عباده وحقيقة لأنهم ما عصوه طرفه عين، فهم أهل لأن يكونوا على أكمل الأحوال، وقراءة "عند" بالنون شديدة المناداة عليهم بالسفه، وذلك أن أهل حضرة الملك الذين يصرفهم في المهمات لا يكونون إلا على أكمل الأحوال وعنديته أنهم لم يعصوه قط وهم محل مقدس عن المعاصي مشرف بالطاعات وأهل الاصطفاء، وذكر المفعول الثاني للجعل الذي بمعنى التعبير الاعتقادي والقول فقال: { إناثاً } وذلك أدنى الأوصاف خلقاً وذاتاً وصفة، ثم دل على كذبهم في هذا المطلق ليدل على كذبهم في المقيد من باب الأولى فقال تهكماً بهم وتوبيخاً لهم وإنكاراً عليهم إظهاراً لفساد عقولهم بأن دعاويهم مجردة عن الأدلة: { أشهدوا } أي حضروا حضوراً هم فيه على تمام الخبرة ظاهراً وباطناً - هذا هو معنى قراءة الجماعة، وأدخل نافع همزة التوبيخ على أخرى مضمومة بناء الفعل للمفعول تنبيهاً على عجزهم عن شهود ذلك إلا بمن يشهدهم إياه، وهو الخالق لا غيره، ومدها في إحدى الروايتين زيادة في المادة عليهم بالفضيحة، وسهل الثانية بينها وبين الواو إشارة إلى انحطاط أمرهم وسفول آرائهم وأفعالهم، وجميع تقلباتهم وأحوالهم كما سيكشف عنه الزمان ونوازل الحدثان { خلقهم } أي مطلب الخلق في أصله أو عند الولادة أو بعدها على حال من الأحوال حضوراً أوجب لهم تحقق ما قالوا بأن لم يغيبوا عن شيء من الأحوال الدالة على ذلك أعم من أن تكون تلك الشهادة حسية بنظر العين أو معنوية بعلم ضروري أو استدلالي بعقل أو سمع.
ولما كان الجواب قطعاً: لا، قال مهدداً لهم مؤكداً لتهديدهم بالسين لظنهم أن لا بعث ولا حساب ولا حشر ولا نشر فقال: { ستكتب } بكتابة من وكلناهم بهم من الحفظة الذين لا يعصوننا فنحن نقدرهم على جميع ما نأمرهم به - هذا على قراءة الجماعة بالتاء والبناء للمفعول، وعظم الكتابة تفخيماً للوعيد وإكباراً لما اشتمل عليه من التهديد في قراءة النون المفيدة للعظمة والبناء للفاعل ونصب الشهادة { شهادتهم } أي قولهم فيهم أنهم إناث الذي لا ينبغي أن يكون إلا بعد تمام المشاهدة، فهو قول ركيك سخيف ضعيف - بما أشار إليه التأنيث في قراءة الجماعة { ويسألون } عنها عند الرجوع إلينا، ويجوز أن يكون في السين استعطاف إلى التوبة قبل كتابة ولا علم لهم به، فإنه قد روى أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم:
"كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات، لعله يسبح الله أو يستغفر" رواه الشعبي والبغوي من طريقه والطبراني والبيهقي من طريق جعفر عن القاسم عن أبي أمامة والبيهقي من رواية بشر بن نمير عن القاسم نحوه وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه من طريق إسماعيل بن عياش عن عاصم بن رجاء عن عروة بن رويم عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه، وروى الحاكم وقال: صحيح الإسناد عن أم عصمة العوصية رضي الله تعالى عنها قال: "ما من مسلم يعمل ذنباً إلا وقف الملك ثلاث ساعات، فإن استغفر من ذنبه لم يوقعه عليه ولم يعذب يوم القيامة" .
ولما ذكر أنهم يسألون بطريق الأولى عن العبادة، نبه على أنهم عبدوهم مع ادعاء الأنوثة فيهم، فقال معجباً منهم في ذلك وفي جعل قولهم حجة دالة على صحة مذهبهم وهو من أوهى الشبه: { وقالوا } أي بعد عبادتهم لهم ونهيهم عن عبادة غير الله: { لو شاء الرحمن } أي الذي له عموم الرحمة { ما عبدناهم } لأن عموم الرحمة يمنع الإقرار على ما لا ينبغي ولكنه لم يشأ عدم عبادتنا لهم فعبدناهم طوع مشيئته، فعبادتنا لهم حق، ولولا أنها حق يرضاه لنا لعجل لنا العقوبة.
ولما كان كأنه قيل: بماذا يجابون عن هذا، قال منبهاً على جوابهم بقوله دالاً على أن أصول الدين لا يتكلم فيها إلا بقاطع: { ما لهم بذلك } أي بهذا المعنى البعيد عن الصواب الذي قصدوا جعله دليلاً على حقية عبادتهم لهم وهو أنه سبحانه لا يشاء إلا ما هو حق ويرضاه ويأمر به، ومن أن الملائكة إناث، وأكد الاستغراق بقوله: { من علم } أي لأنه لو لزم هذا لكان وضعه بعموم الرحمة حينئذ اضطرارياً لا اختيارياً فيؤدي إلى نقص لا إلى كمال، ولكان أيضاً ذلك يؤدي إلى إيجاب أن يكون الناس كلهم مرضياً عنهم لكونهم على حق، وذلك مؤد بلا ريب إلى كون النقيضين معاً حقاً، وهو بديهي الاستحالة.
ولما كان العلم قد ينتفي والمعلوم ثابت في نفسه قال نافياً لذلك: { إن هم } أي ما هم { إلا يخرصون } أي يكذبون في هذه النتيجة التي زعموا أنها دلتهم على رضى الله سبحانه لكفرهم فإنها مبنية على أنه سبحانه لا يشاء إلا ما هو حق، والذي جرأهم على ذلك أنهم يجددون على الدوام القول بغير تثبت ولا تحر، فكان أكثر قولهم كذباً، فصاروا لذلك يجترئون على تعمد القول للظن الذي لا يأمن صاحبه من الوقوع في صريح، وسيأتي تمام إبطال هذه الشبهة بقوله تعالى { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } وأن ذلك هو المراد لا ما طال الخبط فيه لإهمال في السوابق واللواحق الموجبة لسوق المقال، مطابقاً لمقتضى الحال، وقد جهلوا في هذا الكلام عدة جهالات: ادعاء الولدية للغني المطلق، وكون الولد أدنى الصنفين، وعبادتهم لهم مع أنفسهم منهم بغير دليل، واحتياجهم على صحة فعلهم بتقدير علم على ذلك وهو قد نهاهم عنه بلسان كل رسول، وظنهم أنه لا يشاء إلا ما هو الحق المؤدي إلى الجميع بين النقيضين إذ لا ريب فيه ولا خفاء به.
ولما كان الإيمان بالملائكة الذين هم جند الملك من دعائم أصول الدين، وكان الإيمان بالشيء إن لم يكن على ما هو عليه الشيء ولو بأدنى الوجوه كان مختلاً، وأخبر سبحانه أنهم وصفوهم بغير ما هم عليه ففرطوا بوصفهم بالبنات حتى أنزلوهم إلى الحضيض وأفرطوا بالعبادة حتى أعلوهم عن قدرهم فانسلخوا في كلا الأمرين من صريح العقل بما أشار إليه ما مضى، أتبع ذلك أنهم عريئون أيضاً من صحيح النقل، فقال معادلاً لقوله { أشهدوا خلقهم } إنكاراً عليهم بعد إنكار، موجباً ذلك أعظم العار، لافتاً القول عن الوصف بالرحمة تنبيهاً بمظهر العظمة على أن حكمه تعالى متى برز لم يسع سامعة إلا الوقوف عنده والامتثال على كل حال وإلا حل به أعظم النكال: { أم آتيناهم } بما لنا من العظمة { كتاباً } أي جامعاً لما يريدون اعتقاده من أقوالهم هذه { من قبله } أي القرآن أخبرناهم فيه أنا جعلناهم إناثاً وأنا لا نشاء إلا ما هو حق نرضاه ونأمر به { فهم } أي فتسبب عن هذا الإيتاء أنهم { به } أي وحده { مستمسكون } أي موجدون الاستمساك به وطالبون للثبات عليه في عبادة غير الله، وفي أن ذلك حق لكونه لم يعاجلهم بالعقوبة، وفي وصفهم الملائكة بالأنوثة، وفي غير ذلك من كل ما يرتكبونه باطلاً، والإنكار يقتضي نفي ما دخل عليه من إيتاء الكتاب كما انتفى إشهاده لهم خلقهم، وهذه المعادلة التي لا يشك فيها من له بصر بالكلام تدل على صحة كون الإشارة في { ما لهم بذلك من علم } شاملة لدعواهم الأنوثة في الملائكة.
ولما كان الجواب قطعاً عن هذين الاستفهامين: ليس لهم ذلك على مطلق ما قالوا ولا مقيده من صريح عقل ولا صحيح نقل إلى من يصح النقل عنه من أهل العلم بالأخبار الإلهية، نسق عليه قوله إرشاداً إليه: { بل قالوا } أي في جوابهم عن قول ذلك واعتقاده مؤكدين إظهاراً جهلاً أو تجاهلاً لأن ذلك لم يعب عليهم إلا لظن أنه لا سلف لهم أصلا فيه، فإذا ثبت أنه عمن تقدمهم انفصل النزاع: { إنا وجدنا آباءنا } أي وهم أرجح منا عقولاً وأصبح أفهاماً { على أمة } أي طريقة عظيمة يحق لها أن تقصد وتؤم مثل رحلة بمعنى شيء هو أهل لأن يرحل إليه، وكذا قدوة ونحوه. وقراءة الكسر معناها حالة حسنة يحق لها أن تؤم { وإنا على آثارهم } أي خاصة لا على غيرها ونحن في غاية الاجتهاد والقص للآثار وإن لم نجد عيناً نتحققها.
ولما علم ذلك من حالهم، ولم يكن صريحاً في الدلالة على الهداية، بينوا الجار والمجرور، وأخبروا بعد الإخبار واستنتجوا منه قولهم استئنافاً لجواب من سأل: { مهتدون } أي نحن، فإذا ثبت بهذا الكلام المؤكد أنا ما أتينا بشيء من عند أنفسنا ولا غلطنا في الاتباع واقتفاء الآثار، فلا اعتراض علينا بوجه، هذا قوله في الدين بل في أصوله التي من ضل في شيء منها هلك، ولو ظهر لأحد منهم خلل في سعي أبيه الدنيوي الذي به يحصل الدينار والدرهم ما اقتدى به أصلاً وخالفه أي مخالفة، ما هذا إلا لمحض الهوى وقصور النظر، وجعل محطه الأمر الدنيوي الحاضر، لا نفوذ لهم في المعاني بوجه.
ولما كان ترك المدعو للدليل واتباعه للهوى غائظاً موجعاً ومنكئاً مولماً، قال يسليه صلى الله عليه وسلم عاطفاً على قوله: { وكذلك } أي ومثل هذا الفعل المتناهي في البشاعة فعلت الأمم الماضية مع إخوانك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ثم فسر ذلك بقوله: { ما أرسلنا } مع ما لنا من العظمة.
ولما كانت مقالة قريش قد تقدمت والمراد التسلية بغيرهم، وكان صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فلا أمة لغيره في زمانه ولا بعده يسليه بها، سلاه بمن مضى، وقدم ذكر القبلية اهتماماً بالتسلية وتخليصاً لها من أن يتوهم أنه يكون معه في زمانه أو بعده نذير، وإفهاماً لأن المجدد لشريعته إنما يكون مغيثاً لأمته وبشيراً لا نذيراً لثباتهم على الدين بتصديقهم جميع النبيين فقال تعالى: { من قبلك } أي في الأزمنة السالفة حتى القريبة منك جداً، فإن التسلية بالأقرب أعظم، وأثبت الجار لأن الإرسال بالفعل لم يعم جميع الأزمنة وأسقط هذه القبلية في "سبأ" لأن المراد فيها التعميم لأنه لم يتقدم لقريش ذكر حتى يخص من قبلهم. ولما كان أهل القرى أقرب إلى العقل وأولى بالحكمة والحكم، قال: { في قرية } وأعرق في النفي بقوله: { من نذير } وبين به أن موضع الكراهة والخلاف الإنذار على مخالفة الأهواء { إلا قال مترفوها } أي أهل الترفه بالضم وهي النعمة والطعام الطيب والشيء الطريق يكون خاصة بالمترف، وذلك موجب للقلة وهو موجب للراحة والبطالة الصارف عن جهد الاجتهاد إلى سفالة التقليد، وهو موجب لركون الهواء ولو بان الدليل، وهو موجب للبغي والإصرار عليه واللجاجة فيه والتجبر والطغيان، ومعظم الناس في الأغلب أتباع لهؤلاء: { إنا وجدنا آباءنا } أي وهم أعرف منا بالأمور { على أمة } أي أمر جامع يستحق أن يقصد ويؤم وطريقة ودين، وأكدوا قطعاً لرجاء المخالف من لفتهم عن ذلك { وإنا على آثارهم } لا غيرها، ثم بينوا الجار والمجرور وأخبروا خبراً ثانياً واستأنفوا لإتمام مرادهم قولهم إيضاحاً لأن سبب القص القدوة: { مقتدون } أي مستنون أي راكبون سنن طريقهم لازمون له لأنهم مقتدون لأن تقدم عليهم، وحالنا أطيب ما يكون في الاستقامة وأقرب وأسرع.