خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ
٢٩
وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ
٣٠
وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
٣١
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
٣٢
-الزخرف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان من المعلوم أن السامع يقول لمن أحاط علمه بهم ويعلم سرهم وعلنهم: يا رب‍! بل رجعوا، أجيب بقوله: { بل } أي لم يرجعوا بل استمروا لأجل إظهاري لقدرتي على القلوب بإقحام أربابها برضاهم واختيارهم في أقبح الخطوب وأفحش الذنوب على ترك الطريق المنيع والصراط الأقوم وزاغوا عنه زيغاً عظيماً، واستمروا في ضلالهم وتيههم ولم أعاجلهم بالعقوبة لأني { متعت } بإفراده ضميرهم سبحانه لأن التمتيع يتضمن إطالة العمر التي لا يقدر عليها ظاهراً ولا باطناً سواه وأما الانتقام فقد يجعله بأيدي عباده من الملائكة وغيرهم فهو من وادي { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين } [القلم: 45] { هٰؤلاء } أي الذين بحضرتك من المشركين وأعداء الدين { وآباءهم } فمددت من الأعمار مع سلامة الأبدان ومتانة الأركان، وإسباغ النعم والإعفاء من البلايا والنقم، فأبطرتهم نعمي وأزهدتهم أيادي جودي وكرمي، وتمادى بهم ركوب ذلك الباطل { حتى جاءهم الحق } بهذا الدين المتين { ورسول مبين } أي أمره ظاهر في نفسه، لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهية تنبئك بالخبر وهو مع ظهوره في نفسه مظهر لكل معنىً يحتاج إليه، و { متعت } بالخطاب من لسان الرسول المنزل عليه هذا الكتاب لأنه يدعو انتهازاً للفرصة لعله يجاب بما يزيل الغصة يقول: يا رب‍! قد أقمتهم لمن يجهل العواقب في مقام من يرجى رجوعه فما قضيت بذلك بل متعت إلى آخره.
ولما كان التقدير: فلم يردهم التمتيع بإدرار النعم عليهم وإسراعنا بها إليهم مع وضوح الأمر لهم، بل كان الإنعام عليهم سبباً لبطرهم، وكان البطر سبباً لتماديهم على الاستعانة بنعمتنا على عصيان أمرنا وهم يدعون أنهم أتبع الناس للحق وأكفهم عن الباطل، عطف عليه قوله؛ { ولما جاءهم الحق } أي الكامل في حقيته بمطابقة الواقع إياه من غير إلباس ولا اشتباه، الظاهر في كماله لكل من له أدنى لب بما عليه القرآن من الإعجاز في نظمه، وما عليه ما يدعو إليه من الحكمة من جميع حكمه، والتصادق مع ما يعلمونه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام قبل أن يبدلوه ومن أمر موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام من التوحيد، زادوا على تلك الغفلة التي أدى إليها البطر بالنعمة ما هو شر من ذلك وهو التكذيب بأن { قالوا } مكابرة وعناداً وحسناً وبغياً من غير وقفة ولا تأمل: { هذا } مشيرين إلى الحق الذي يطابقه الواقع، فلا شيء أثبت منه وهو القرآن وغيره مما أتى به من دلائل العرفان { سحر } أي خيال لا حقيقة له، ولما كان الحال مقتضياً من غير شك ولا وقفة لمعرفتهم لما جاء به وإذعانهم له قالوا مؤكدين لمدافعه ما ثبت في النفوس من ذلك: { وإنا به كافرون } أي عريقون في ستره بخصوصه حتى لا يعرفه أحد ولا يكون له تابع.
ولما أخبر عن طعنهم في القرآن أتبعه الإخبار عن طعنهم فيمن جاء به تغطية لأمره عملاً بأخبارهم في ختام ما قبلها عن أنفسهم بالكفر زيادة وإمعاناً فيما كانت النعم أدتهم إليه من البطر فقال: { وقالوا } لما قهرهم ما ذكروا به مما يعرفونه من أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام من النبوة والرسالة، وكذا من بعده من أولاده فلم يتهيأ لهم الإصرار على العناد بإنكار أن يكون النبي من البشر قول من له أمر عظيم في التصرف في الكون والتحكم على الملك الذي لا يسأل عما يفعل، فأنكروا التخصيص بما أتوا به من التخصيص في قولهم: { لولا } أي هل لا ولولا.
ولما كان إنزال القرآن نجوماً على حسب التدريج، عبروا بما يوافق ذلك فقالوا: { نزل } أي من المنزل الذي ذكره محمد صلى الله عليه وسلم وعينوا مرادهم ونفوا اللبس فقالوا بقسر وغلظة كلمة على من يطلبهم لإصلاح حالهم { هذا القرآن } أي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وادعى أنه جامع لكل خير، ففيه إشارة إلى التحقير { على رجل من القريتين } أي مكة والطائف، ولم يقل: إحدى - اغتناء عنها بوحدة رجل { عظيم } أي بما به عندهم من العظمة والجاه والمال والسن ونحو ذلك وهم عالمون أن شأن الملك إنما هو إرسال من يرتضونه لا من يقترحه الرعية، ويعلمون أن للملك المرسل له صلى الله عليه وسلم الغني المطلق لكنهم جهلوا - مع أنه هو الذي أفاض المال والجاه - أنه ندب إلى الزهد فيهما والتخلي عنهما، وأنه لا يقرب إليه إلا إخلاص الإقبال عليه الناشئ عن طهارة الروح وذكاء الأخلاق وكمال الشمائل والتحلي بسائر الفضائل والتخلي عن جميع الرذائل، فقد جعلوا لإفراطهم في الجهل الحالة البهيمية شرطاً للوصول إلى الحالة الملكية المضادة لها بكل اعتبار.
ولما تضمن قولهم إثبات عظمة لأنفسهم بالاعتراض على الملك، قال منكراً عليهم موبخاً لهم بما معناه أنه ليس الأمر مردوداً إليهم ولا موقوفاً عليهم بل هو إلى الله وحده
{ والله أعلم حيث يجعل رسالته } [الأنعام: 124] { أهم } أي أهؤلاء الجهلة العجزة { يقسمون } أي على التجدد والاستمرار: ولفت القول عن إفراد الضمير إلى صفة الرحمة المضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً له وإظهاراً لعلي قدره: { رحمت ربك } أي إكرام المحسن إليك وإنعامه وتشريفه بأنواع اللطف والبر وإعظامه بما رباك له من تخصيصك بالإرسال إليهم بتأهيلهم للإنقاذ من الضلال، وجعلك وأنت أفضل العالمين الرسول إليهم ففضلوا بفضيلتك مع أنك أشرفهم نسباً وأفضلهم حسباً وأعظمهم عقلاً وأصفاهم لباً وأرحمهم قلباً ليتصرفوا في تلك الرحمة التي هي روح الوجود وسر الأمر بحسب شهواتهم وهم لا يقدرون على التصرف في المتاع الزائل بمثل ذلك.
ولما نفى أن يكون لهم شيء من القسم قال جواباً لمن كأنه قال: فمن القاسم؟ دالاً على بعدهم عن أن يكون إليهم شيء من قسم ما أعد لأديانهم بما يشاهدونه من بعدهم عن قسم ما أعد لأبدانهم، لافتاً القوم عن صفة الإحسان إلى مظهر العظمة إشارة إلى أنها تأبى المشاركة في شيء وتقتضي التفرد: { نحن قسمنا } أي بما من العظمة { بينهم } أي في الأمر الذي يعمهم ويوجب تخصيص كل منهم بما لديهم { معيشتهم } التي يعدونه رحمة ويقصرون عليها النعمة { في الحياة الدنيا } التي هي أدنى الأشياء عندنا، وإشار إلى أنها حياة ناقصة لا يرضاها عاقل، وأما الآخرة فعبر عنها بالحيوان لأنا لو تركنا قسمها إليهم لتعاونوا على ذلك فلم يبق منهم أحد فكيف يدخل في الوهم أن يجعل إليهم شيئاً من الكلام في أمر النبوة التي هي روح الوجود، وبها سعادة الدارين: { ورفعنا } بما لنا من نفوذ الأمر { بعضهم } وإن كان ضعيف البدن قليل العقل { فوق بعض } وإن كان قوياً عزيز العقل { درجات } في الجاه والمال ونفوذ الأمر وعظم القدر لينتظر حال الوجود، فإنه لا بد في انتظامه من تشارك الموجودين وتعاونهم، تفاوتنا بينهم في الجثث والقوى والهمم ليقتسموا الصنائع، والمعارف والبضائع، ويكون كل ميسر لما خلق له، وجانحاً إلى ما هي له لتعاطيه، فلم يقدر أحد من دنيء أو غني أن يعدو قدره وترتقي فوق منزلته.
ولما ذكر ذلك، علله بما ثمرته عمارة الأرض فقال: { ليتخذ } أي بغاية جهده { بعضهم بعضاً } ولما كان المراد هنا الاستخدام دون الهزء لأنه لا يليق التعليل به، أجمع القراء على ضم هذا الحرف هنا فقال: { سخرياً } أي أن يستعمله فيما ينوبه أو يتعسر أو يتعذر عليه مباشرته ويأخذ للآخر منه من المال ما هو مفتقر إليه، فهذا بماله، وهذا بأعماله، وقد يكون الفقير أكمل من الغني ليكمل بذلك نظام العالم لأنه لو تساوت المقادير لتعطلت المعايش، فلم يقدر أحد أن ينفك عما جعلناه إليه من هذا الأمر الدنيء فكيف يطمعون في الاعتراض في أمر النبوة، أيتصور عاقل أن يتولى قسم الناقص ونكل العالي إلى غيرنا، قال ابن الجوزي: فإذا كانت الأرزاق بقدر الله لا بحول المحتال وهي دون النبوة فكيف تكون النبوة - انتهى. وهذا هو المراد بقوله تعالى صارفاً القول عن مظهر العظمة والسلطان إلى الوصف بالإحسان إظهاراً لشرف النبي صلى الله عليه وسلم { ورحمة ربك } أي المربي لك والمدبر لأمرك بإرسالك وإنارة الوجود برسالتك التي هي لعظمتها جديرة بأن تضاف إليه ولا يسمى غيرك رحمة { خير مما يجمعون } من الحطام الفاني فإنه وإن تأتي فيه خير باستعماله في وجوه البر بشرطه، فهذا بالنسبة إلى النبوة، وما قارنا مما دعا إلى الإعراض عن الدنيا متلاش.