خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِ يُؤْمِنُونَ
٦
وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
٧
يَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٨
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَٰتِنَا شَيْئاً ٱتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
٩
مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٠
هَـٰذَا هُدًى وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ
١١
ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٢
-الجاثية

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكر هذه الآيات العظيمات، وكانت كلها مشتركة في العظم، بعد ما أشار إلى تباين رتبها في الخفاء والجلاء بفواصلها، قال مشيراً إلى علو رتبها بأداة البعد: { تلك } أي الآيات الكبرى { آيات الله } أي دلائل المحيط بصفات الكمال التي لا شيء أجلى ولا أظهر ولا أوضح منها. ولما كان كأنه قيل: ما لها؟ قال، أو يكون المراد: نشير إليها حال كوننا { نتلوها } أي نتابع قصها { عليك } سواء كانت مرئية أو مسموعة، متلبسة { بالحق } أي الأمر الثابت الذي لا يستطاع تحويله فليس بسحر ولا كذب، فتسبب عن ذلك حينئذ الإنكار عليهم وعلى من يطلب إجابتهم إلى المقترحات طمعاً في إيمانهم في قوله تعالى: { فبأي حديث } أي خبر عظيم صادق يتجدد علمهم به يستحق أن يتحدث به، واستغرق كل حديث فقال: { بعد الله } أي الحديث الأعظم عن الملك الأعلى { وآياته } أي والحديث عن دلالاته العظيمة { يؤمنون * } من خاطب - وهم الجمهور - ردوه على قوله "وفي خلقكم" وهو أقوى تبكيتاً، وغيرهم وهم أبو عمرو وحفص عن عاصم وروح عن يعقوب رأوا أن ذلك الخطاب صرف إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { نتلوها عليك بالحق }.
ولما كان لا يبقى على الكفر نوع بقاء فضلاً عن الإصرار بعد هذا البيان إلا من يستحق النكال لمجاهرته بالعناد، قال على وجه الاستنتاج مهدداً: { ويل } أي مكان معروف في جهنم { لكل أفاك } أي مبالغ في صرف الحق عن وجهه { أثيم * } أي مبالغ في اكتساب الإثم وهو الذنب، وعمل ما لا يحل مما يوجب العقاب، وفسر هذا بقوله: { يسمع آيات الله } أي دلالات الملك الأعظم الظاهرة حال كونها { تتلى } أي يواصل استماعه لها بلسان القال أو الحال من أيّ تال كان، عالية { عليه } بجميع ما فيها من سهولة فهمها وعذوبة ألفاظها وظهور معانيها وجلالة مقاصدها مع الإعجاز فكيف إذا كان التالي أشرف الخلق.
ولما كانت تلاوتها موجبة لإقلاعه فكان إصراره مع بعد رتبته في الشناعة مستبعداً كونه قال: { ثم يصر } أي يدوم دوماً عظيماً على قبيح ما هو فيه حال كونه { مستكبراً } أي طالباً الكبر عن الإذعان وموجداً له. ولما كان مع ما ذكر من حاله يجوز أن يكون سماعه لها، خفف من مبالغته في الكفر، بين أنها لم تؤثر فيه نوعاً من التأثير، فكان قلبه أشد قسوة من الحجر فقال: { كأن } أي كأنه { لم يسمعها } فعلم من ذلك ومن الإصرار وما قيد به من الاستكبار أن حاله عند السماع وقبله وبعده على حد سواء، وقد علم بهذا الوصف أن كل من لم ترده آيات الله تعالى كان مبالغاً في الإثم والإفك، فكان له الويل. ولما كان الإصرار معناه الدوام المتحكم، لم يذكر الوقر الذي هو من الأمراض الثابتة كما ذكره في سورة لقمان، قال ابن القطاع وابن ظريف في أفعالهما، أصر على الذنب والمكروه: أقام، وقال عبد الغافر الفارسي في المجمع: أصررت على الشيء أي أقمت ودمت عليه، وقال ابن فارس في المجمل: والإصرار: العزم على الشيء والثبات عليه، وقال أبو عبد الله القزاز في ديوانه ونقله عن عبد الحق في واعيه: وأصل الصر الإمساك، ومنه يقال: أصر فلان على كذا، أي أقام عليه وأمسكه في نفسه وعقده لأنه قد يقول ما ليس في نفسه وما لا يعتقده، والرجل مصر على الذنب أي ممسك له معتقد عليه، ثم قال: من الإصرار عليه وهو العزم على أن لا يقلع عنه، وقال الأصفهاني تبعاً لصاحب الكشاف: وأصله من أصر الحمار على العانة، وهو أن ينحني عليها صاراً أذنيه.
ولما أخبر عن ثباته على الخبث، سببب عنه تهديده في أسلوب دال - بما فيه من التهكم - على شدة الغضب وعلى أنه إن كان له بشارة فهي العذاب فلا بشارة له أصلاً فقال تعالى: { فبشره } أي على هذا الفعل الخبيث { بعذاب } لا يدع له عذوبة أصلاً { أليم * } أي بليغ الإيلام.
ولما بين تعالى كفره بما يسمع من الآيات، أتبعه ما هو أعم منه فقال: { وإذا علم } أي أيّ نوع كان من أسباب العلم { من آياتنا } أي على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا { شيئاً } وراءه وكان كلما رأوا الإنسان في غاية التمكن منه، قال مبيناً للعذاب: { جهنم } أي تأخذهم لا محالة وهم في غاية الغفلة عنها بترك الاحتراز منها، ويحسن التعبير بالوراء أن الكلام في الأفاك، وهو انصراف الأمور عن أوجهها إلى اقفائها فهو ماش أبداً إلى ورائه فهو ماش إلى النار بظهره، ويستعمل، "وراء" في الإمام، فيكون حينئذ مجاراً عن الإحاطة أي تأخذهم من الجهة التي هم بها عالمون والجهة التي هم بها جاهلون، فتلقاهم بغاية التجهم والعبوسة والغيظ والكراهة ضد ما كانوا عليه عند العلم بالآيات المرئية والمسموعة من الاستهزاء الملازم للضحك والتمايل بطراً وأشراً، ومثل ما كانوا عليه عند الملاقاة للمصدقين بتلك الآيات.
ولما كانوا يظهرون الركون إلى ما بأيديهم من الأعراض الفانية، قال: { ولا يغني عنهم } أي في دفع ذلك { ما كسبوا } أي حصلوا من الأمور التي أفادتهم العز الذي أورثهم الاستهزاء { شيئاً } أي من إغناء. ولما كان هؤلاء لما هم عليه من العمى يدعون إغناء آلهتهم عنهم، قال مصرحاً بها: { ولا ما اتخذوا } أي كلفوا أنفسهم أي كلفوا أنفسهم بأخذه مخالفين لما دعتهم إليها فطرهم الأولى السليمة من البعد عنها.
ولما كان كفرهم إنما هو الإشراك، فكانوا يقولون "الله" أيضاً، قال معبراً بما يفهم سفول ما سواه: { من دون الله } أي أدنى رتبة من رتب الملك الأعظم { أولياء } أي يطمعون في أن يفعلوا معهم ما يفعله القريب من النفع والذب والدفع { ولهم } مع عذابه بخيبة الأمر { عذاب عظيم * } لا يدع جهة من جهاتهم ولا زماناً من أزمانهم ولا عضواً من أعضائهم إلا ملأه.
ولما أخبر عما لمن أعرض عن الآيات بما هو أجل موعظة وأردع زاجر عن الضلال، قال مشيراً إلى ما افتتح به الكلام من المتلو الذي هذا منه: { هذا } أي التنزيل المتلو عليكم { هدى } أي عظيم جداً بالغ في الهداية كامل فيها، فالذين اهتدوا بآيات ربهم لأنهم - لم يغتروا بالحاضر لكونه زائلاً فاستعملوا عقولهم فآمنوا به لهم نعيم مقيم { والذين كفروا } أي ستروا ما دلتهم عليهم مرائي عقولهم به - هكذا كان الأصل، ولكنه نبه على أن كل جملة من جمله، بل كل كلمة من كلماته دلالة واضحة عليه سبحانه فقال: { بآيات ربهم } أي وهذه التغطية بسبب التكذيب بالعلامات الدالة على وحدانية المحسن إليهم فضلوا عن السبيل لتفريطهم في النظر لغروهم بالحاضر الفاني { لهم عذاب } كائن { من رجز } أي عقاب قذر شديد جداً عظيم القلقلة والاضطراب متتابع الحركات، قال القزاز، الرجز والرجس واحد { أليم * } أي بليغ الإيلام، الآية من الاحتباك: ذكر الهدى أولاً دليلاً على الضلال ثانياً، والكفر والعذاب ثانياً دليلاً على ضدهما أولاً، وسره أنه ذكر السبب المسعد ترغيباً فيه، والمشقى ترهيباً منه.
ولما ذكر سبحانه وتعالى صفة الربوبية، ذكر بعض آثارها وما فيها من أياته، فقال مستأنفاً دالاً على عظمتها بالاسم الأعظم: { الله } أي الملك الأعلى المحيط بجميع صفات الكمال. ولما كان آخر الآيات التي قدمها الرياح، ذكر ما يتصرف بتسييرها فقال: { الذي سخر } أي وحده من غير حول منكم في ذلك بوجه من الوجوه { لكم } أيها الناس بربكم وفاجركم { البحر } بما جعل فيه مما لا يقدر عليه إلا واحد لا شريك له فاعل بالاختيار من القبلية للسير فيه بالرقة والليونة والاستواء مع الريح الموافقة وأنه يطفوا عليه ما كان من الخشب مع ما علم من صنعته على هذا الوجه الذي تم به المراد { لتجري الفلك } أي السفن { فيه بأمره } ولو كانت موقرة بأثقال الحديد الذي يغوص فيه أخف شيء منه كالإبرة وما دونها.
ولما كان التقدير: لتعبروا بذلك فتعلموا أنه بقدرته خاصة لتؤمنوا به، عطف عليه قوله: { ولتبتغوا } أي تطلبوا بشهوة نفس واجتهاد بما تحملون فيه من البضائع وتتوصلون إليه من الأماكن والمقاصد بالصيد والغوص وغير ذلك { من فضله } لم يصنع شيئاً منه سواه. ولما كان التقدير: لتظهر عليكم آثار نعمته، عطف عليه قوله تعالى: { ولعلكم تشكرون * } أي ولتكونوا بحيث يرجوا منكم من ينظر حالكم ذلك الشكر من أنعم عليكم به ليزيدكم من فضله في الدنيا والآخرة.