خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٧
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ
١٨
-الأحقاف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكر سبحانه هذا المحسن بادئاً به لكون المقام للإحسان، أتبعه المسيء المناسب لمقصود السورة المذكور صريحاً في مطلعها فقال تعالى: { والذي قال لوالديه } مع اجتماعهما كافراً لنعمهما نابذاً لوصيتنا بهما فكان كافراً بنعمة أعظم منعم محسوس بعد الكفر بنعم أعظم منعم مطلقاً، والتثنية مشيرة إلى أنه أغلظ الناس كبداً، لأن العادة جرت بقبول الإنسان كلام أصله ولو كان واحداً، وأن الاجتماع مطلقاً له تأثير فكيف إذا كان والداً: { أف } أي تضجر وتقذر واسترذال وتكره مني ولغاتها أربعون - حكاها في القاموس، المتواتر منها عن القراء ثلاث: الكسر بغير تنوين وهو قراءة الجمهور، والمراد به أن المعنى الذي قصده مقترن بسفول ثابت، ومع التنوين وهو قراءة المدنيين وحفص والمراد به أنه سفول عظيم سائر مع الدهر بالغلبة والقهر، والفتح من غير تنوين وهو قراءة ابن كثير وابن عامر ويعقوب، والمراد به اقتران المعنى المقصود بالاشتهار بالعلو والانتشار مع الدوام، وقد تقدم في الإسراء عن الحرالي - وهو الحق - أن التأفيف أنهى الأذى وأشده، فإن معناه أن المؤفف به لا خطر له ولا وزن أصلاً، ولا يصلح لشيء بل هو عدم بل العدم خير منه مع أنهى القذر.
ولما كان كأنه قيل: لمن هذا التأفيف؟ قال: { لكما } ولما كانا كأنهما قالا له: لم هذا التقذير العظيم بعد الإحسان لا تقدر على جزائنا به، قال مبكتاً موبخاً منكراً على تقدير كونه وعداً: { أتعدانني } أي على سبيل الاستمرار بالتجديد في كل وقت { أن أخرج } أي من مخرج ما يخرجني من الأرض بعد أن غبت فيها وصرت تراباً أحيى كما كنت أول مرة { وقد } أي والحال أنه قد { خلت } أي تقدمت وسبقت ومضت على سنن الموت { القرون } أي الأجيال الكثيرة من صلابتهم، وأثبت الجار لأن القرن لا ينخرم إلا بعد مدة طويلة، فالانخرام في ذلك غير مستغرق للزمان فقال: { من قبلي } أي قرناً بعد قرن وأمة بعد أمة وتطاولت الأزمان وأغلبهم يكذب بهذا الحديث فأنا مع الأغلب، وتأيد ذلك بأنه لم يرجع أحد منهم { وهما } أي والحال أنهما كلما قال لهما ذلك { يستغيثان الله } أي يطلبان بدعائهما من له جميع الكمال أن يعينهما بإلهامة قبول كلامهما، قائلين لولدهما مجتهدين بالنصيحة له بعد الاجتهاد بالدعاء: { ويلك } كما يقول المشفق إذا زاد به الكرب وبلغ منه الغم، إشارة إلى أنه لم يبق له إن أعرض إلا الويل وهو الهلاك { آمن } أي أوقع الإيمان الذي لا إيمان غيره، وهو الذي ينقذ من كل هلكة، ويوجب كل فوز بالتصديق بالعبث وبكل ما جاء عن الله، ثم عللا أمرهما على هذا الوجه مؤكدين في مقابلة إنكاره فقالا: { إن وعد الله } أي الملك الأعظم المحيط بجميع صفات المهابة والكمال الموصوف بالعزة والحكمة { حق } أي ثابت أعظم ثبات لانه لو لم يكن حقاً لكان نقصاً من جهة الإخلاف الذي لا يرضاه لنفسه أقل العرب فكيف وهو يلزم منه منافاة الحكمة بكون الخلق حينئذ على وجه العبث لأنهم عباد ورعايا لا يعرضون على ملكهم الذي أبدعهم مع علمه بما هم عليه من ظلم بعضهم لبعض وبغي بعضهم على بعض { فيقول } مسبباً عن قولهما ومعقباً له: { ما هذا } أي الذي ذكرتماه لي من البعث { إلا أساطير الأولين * } أي خرافات كتبها على وجه الكذب الأولائل وتناقلها منهم الأعمار جيلاً بعد جيل فصارت بحيث يظن الضعفاء أنها صحيحة - هذا والعجب كل العجب أنه بتصديقه لا يلزمه فساد على تقدير من التقادير الممكنة، بل يحمله التصديق على محاسن الأعمال ومعالي الأخلاق التي هو مقر بأنها محاسن من لزوم طريق الخير وترك طريق الشر، وتكذيبه يجره إلى المرح والأشر، والطبر وأفعال الشر، ودنايا الأخلاق مع احتمال الهلاك الذي يخوفانه به وهو لا ينفي أنه محتمل وإن استبعده فما دعوه إليه كما ترى لا يأباه عاقل ولكنها عقول كادها باريها.
ولما كان هذا الكلام، ومع بلوغ النهاية في حسن الانتظام، وقد حصر الإنسان هذين القسمين مثلاً بليغاً لكفار العرب ومؤمنيهم، فالأول للمؤمنين التابعين لملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الآتي بها أعظم أنبيائه الكرام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، والثاني للكفار المنابذين لأعظم آبائهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي يعرفونه منه نقلاً يتوارثونه من آبائهم، وقرآناً معجزاً كأنهم سمعوه من خالقهم أنه موحد لله مقر بالبعث محذر من غوائله، وكان قد ابتدأ سبحانه الحديث عنهم بما ذكر مما كفروا فيه المنعمين واستحقوا كلتا السوءتين، خزي الدنيا وعذاب الآخرة، أخبر عنهم بما أنتجه تكذيبهم بموعود ربهم وعقوقهم لوالديهم حقيقة أو تعليماً بقوله: { أولئك } أي البعداء من العقل والمروءة وكل خير { الذين حق } أي ثبت ووجب. ولما كان هذا وعيداً، دل عليه بأداة الاستعلاء فقال: { عليهم القول } أي الكامل في بابه بأنهم أسفل السافلين، وهذا يكذب من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، فإنه أسلم وصار من أكابر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فحقت له الجنة.
ولما أثبت لهم هذه الشنيعة، عرف بكثرة من شاركهم فيها فقال: { في } أي كائنين في { أمم } أي خلائق كانوا بحيث يقصدهم الناس ويتبع بعضهم بعضاً { قد خلت } تلك الأمم. ولما كان المحكوم عليه بعض السالفين، أدخل الجار فقال: { من قبلهم } فكانوا قدوتهم { من الجن } بدأ بهم لأن العرب تستعظمهم وتستجير بهم، وذلك لأنهم يتظاهرون لهم يؤذونهم ولم يقطع أذاهم لهم وتسلطهم عليهم ظاهراً وباطناً إلا القرآن، فإنه أحرقهم بأنواره وجلاهم عن تلك البلاد بجلي آثاره { والإنس } وما نفعتهم كثرتهم ولا أغنت عنهم قوتهم، ثم علل حقوق الأمر عليهم أو استأنف بقوله مؤكداً تكذيباً لظن هذا القسم الذي الكلام فيه أن الصواب مع الأكثر: { إنهم } أي كلهم { كانوا } أي جبلة وطبعاً وخلقاً لا يقدرون على الانفكاك عنه { خاسرين * } أي عريقين في هذا الوصف.