خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَٰلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١٩
وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ
٢٠
وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِٱلأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ ٱلنُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
٢١
-الأحقاف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما قسمهم في الأعمال، جمعهم في العدل والإفضال فقال: { ولكل } أي من فريقي السعداء والبعداء من القبيلتين: الجن والإنس، في الدنيا والآخرة { درجات } أي دركات أي منازل ومراتب متفاضلين فيها { من } أجل { ما عملوا } أو من جوهره ونوعه من الأعمال الصالحة والطالحة. ولما كان التقدير: ليظهر ظهوراً بيناً أنه سبحانه فاعل بالاختيار بالمفاوته بين العقلاء ويظهر بيناً لا وقفة فيه أن الحقائق على غير ما كان يتراءى لهم في الدنيا، فإن حجب المكاره والشهوات كانت ترى الأمور على خلاف ما هي عليه، عطف عليه قوله في قراءة البصريين وعاصم وهشام عن ابن عامر بخلاف عنه: { وليوفيهم } أي ربهم الذي تقدم إقبال المحسن عليه ودعاؤه له، وقراءة الباقين بالنون أنسب لمطلع السورة ولما يشير إليه من كشف حجب الكبرياء في يوم الفصل.
ولما كان سبحانه يعلم مثاقيل الذر وما دونها وما فوقها ويجعل الجزاء على حسبها في المقدار والشبه والجنس والنوع والشخص حتى يكاد يظن العامل أن الجزاء هو العمل قال: { أعمالهم } أي جزاءها من خير وشر وجنة ونار - وهذا ظاهر، أو نص في أن الجن يثابون بالإحسان كما يعاقبون بالعصيان، وسورة الرحمن كلها خطاب للثقلين بالثواب لأهل الطاعة، والعقاب لأهل المعصية من كل من القبيلتين؛ كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه، ويجزى مطيعهم بالثواب كما يجازى عاصيهم بالعقاب - قاله مالك وابن أبي ليلى والضحاك وغيرهم كما نقله البغوي { وهم } أي والحال أنهم { لا يظلمون * } أي لا يتجدد لهم شىء من ظالم ما من ظلم في جزاء أعمالهم بزيادة في عقاب أو نقص من ثواب، بل الرحمانية كما كانت لهم في الدنيا فهي لهم في الآخرة فلا يظلم ربك أحداً بأن يعذبه فوق ما يستحقه من العقاب، أو ينقصه عما يستأهل من الثواب.
ولما كان الظاهر في هذه السورة الإنذار كما يشهد به مطلعها، قال ذاكراً بعض ما يبكت به المجرمون يوم البعث الذي كانوا به يكذبون ويكون فيه توفية جزاء الأعمال، عاطفاً على ما تقديره: اذكر لهم هذا لعلهم يأنفون أن يكونوا المسيئين فيكونوا من المحسنين: { ويوم } أي واذكر لهم يوم يعرضون - هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف الذي أوجب لهم الجزاء إشارة إلى أن الأمر كان ظاهراً لهم ولكنهم ستروا، أنوار عقولهم فقال: { يعرض الذين كفروا } أي من الفريقين المذكورين { على النار } أي يصلون لهبها ويقلبون فيها كما يعرض اللحم الذي يشوى، مقولاً لهم على سبيل التنديم والتقريع والتوبيخ والتشنيع لأنهم لم يذكروا الله حق ذكره عند شهواتهم بل نالوها مع مخالفة أمره سبحانه ونهيه: { أذهبتم } في قراءة نافع وأبي عمرو والكوفيين بالإخبار، وقراءة الباقين بالاستفهام لزيادة الإنكار والتوبيخ { طيباتكم } أي لذاتكم باتباعكم الشهوات { في حياتكم } ونفر منها بقوله تعالى: { الدنيا } أي القريبة الدنية المؤذن وصفها لمن يعقل بحياة أخرى بعدها، فكان سعيكم في حركاتكم وسكناتكم لأجلها حتى نلتموها { واستمتعتم } أي طلبتم وأوجدتم انتفاعكم { بها } وجعلتموها غاية حظكم في رفعتكم ونعمتكم.
ولما كان ذلك استهانة بالأوامر والنواهي للاستهانة بيوم الجزاء، سبب عنه قوله تعالى: { فاليوم تجزون } أي على إعراضكم عنا بجزاء من لا تقدرون التقصي من جزائه بأيسر أمر منه { عذاب الهون } أي الهوان العظيم المجتمع الشديد الذي فيه ذلك وخزي { بما كنتم } جبلة وطبعاً { تستكبرون } أي تطلبون الترفع وتوجدونه على الاستمرار { في الأرض } التي هي لكونها تراباً وموضوعة على الزوال والخراب، أحق شيء بالتواضع والذل والهوان. ولما كان الاستكبار يكون بالحق لكونه على الظالمين فيكون ممدوحاً، قيده بقوله: { بغير الحق } أي الأمر الذي يطابقه الواقع وهو أوامرنا ونواهينا، ودل بأداة الكمال على أنه لا يعاقب على الاستكبار مع الشبهة { وبما كنتم } على الاستمرار { تفسقون * } أي تجددون الخروج عن محيط الطاعة الذي تدعو إليه الفطرة الأولى العقل إلى نوازع المعاصي.
ولما هددهم سبحانه بالأمور الأخروية، وستر الأمر بالتذكير بها لكونها مستورة وهم بها يكذبون في قوله "ويوم"، وختم بالعذاب على الاستكبار المذموم والفسق، عطف عليه تهديهم بالأمور المحسوسة لأنهم متقيدون بها مصرحاً بالأمر بالذكر فقال تعالى: { واذكر } أي لهؤلاء الذين لا يتعظون بمحط الحكمة الذي لا يخفى على ذي لب، وهو البعث. ولما كان أقعد ما يهددون به في هذه السورة وأنسبه لمقصودها عاد لكونهم أقوى الناس أبداناً وأعتاهم رقاباً وأشدهم قلوباً وأوسعهم ملكاً وأعظمهم استكباراً بحيث كانوا يقولون { من أشد منا قوة } وبنوا البنيان الذي يفني الدهر ولا يفنى، فلا يعمله إلا من نسي الموت أو رجا الخلود واصطنعوا جنة على وجه الأرض لأن ملكهم عمها كلها مع قرب بلادهم لكونها في بلاد العرب من قريش ومعرفتهم بأخبارهم ورؤيتهم لديارهم وكون عذابهم نشأ من بلدهم بدعاء من دعا منهم، ذكر أمرهم على وجه دل على مقصود السورة، وعبر بالأخوة تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم لأن فظيعة القوم لمن هو منهم ويعلمون مناقبه ومفاخره أنكأ فقال: { أخا عاد } وهو أخو هود عليه الصلاة والسلام الذي كان بين قوم لا يعشرهم قومك في قوة ولا مكنة، وصدعهم مع ذلك بمر الحق وبادأهم بأمر الله، لم يخف عاقبتهم ونجيته منهم، فهو لك قدوة وفيه أسوة، ولقومك في قصدهم إياك بالأذى من أمره موعظة.
ولما ذكره عليه الصلاة والسلام لمثل هذه المقاصد الجليلة، أبدل منه قصته زيادة في البيان، فقال مبيناً أن الإنذار هو المقصد الأعظم من الرسالة: { إذ } أي حين { أنذر قومه } أي الذين لهم قوة زائدة على القيام فيما يحاولونه { بالأحقاف } قال الأصبهاني: قال ابن عباس: واد بين عمان ومهرة، قال: وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له مهرة، إليه ينسب الإبل المهرية، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إرم. وقال قتادة: كانوا مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشجر، والأحقاف جمع حقف بالكسر، وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء، وقال ابن زيد: هو ما استطال من الرمل كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلاً، وقال في القاموس: وهو الرمل العظيم المستدير، وأصل الرمل، واحقوقف الرمل والظهر والهلال: طال واعوج. ومن الأمر الجلي أن هذه الهيئة لا تكون في بلاد الريح بها غالبة شديدة لأنه لو كان ذلك انسف الجبل نسفاً بخلاف بلاد الجبال كمكة المشرفة، فإن الريح تكون بها غاية في الشدة لأنها إما أن تصك الجبل فتنعكس راجعة بقوة شديدة، أو يكون هناك جبال فتراد بينها أو تنضغط فتخرج مما تجد من الفروج على هيئة مزعجة فينبغي أن يكون أهل الجبال أشد من ذلك حذراً.
ولما ذكر النذير والمنذرين ومكانهم لما ذكر من المقاصد، ذكر أنهم أعرضوا عنه ولم يكن بدعاً من الرسل ولا كان قومه جاهلين بأحوالهم، فاستحقوا العذاب تحذيراً من مثل حالهم، فقال: { وقد } أي والحال أنه قد { خلت } أي مرت ومضت وماتت { النذر } أي الرسل الكثيرون الذين محط أمرهم الإنذار.
ولما لم يكن إرسالهم بالفعل مستغرقاً لجميع الأزمنة، أدخل الجار فقال: { من بين يديه } أي قبله كنوح وشيث وآدم عليه الصلاة والسلام فما كان بدعاً منها { ومن خلفه } أي الذين أتوا من بعده فما كنت أنت بدعاً منهم. ولما أشار إلى كثرة الرسل، ذكر وحدتهم في أصل الدعاء، فقال مفسراً للإنذار معبراً بالنهي: { ألا تعبدوا } أي أيها العباد المنذرون، بوجه من الوجوه، شيئاً من الأشياء { إلا الله } الملك الذي لا ملك غيره ولا خالق سواه ولا منعم إلا هو، فإني أراكم تشركون به من لم يشركه في شيء من تدبيركم، والملك لا يقر على مثل هذا.
ولما أمرهم ونهاهم، علل ذلك فقال محذراً لهم من العذاب مؤكداً لما لهم من الإنكار لاعتمادهم على قوة أبدانهم وعظيم شأنهم: { إني أخاف عليكم } لكونكم قومي وأعز الناس علي { عذاب يوم عظيم * } لا يدع جهة إلا ملأها عذابه، إن أصررتم على ما أنتم فيه من الشرك.