خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا
١٠
ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ
١١
إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ
١٢
وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ
١٣
أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ
١٤
-محمد

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان لا يستهين بهذه القضايا ويجترئ مثل هذه البلايا إلا من أمن العقوبة، ولا يأمن العقوبة إلا من أعرض عن الله سبحانه وتعالى، وكان يكفي في الصد عن الأمرين وقائعه تعالى بالأمم الخالية لأجل تكذيب رسله ومناصبة أوليائه والاعتداء على حدوده، قال منكراً عليهم وموبخاً لهم تقدماً إليهم بالتحذير من بطشه وسطوته وشديد أخذه وعقوبته، مسبباً عن كراهيتهم المذكورة وما تأثر عنها من العداوة لأهل الله: { أفلم يسيروا } أي بسبب تصحيح أعمالهم وبنائها على أساس { في الأرض } أي التي فيها آثار الوقائع فإنها هي الأرض في الحقيقة لما لها من زيادة التعريف بالله { فينظروا } عقب سيرهم وبسبه. ولما كانت وقائعه خلعة للقلوب بما فيها من الأمور الباهرة الناطقة بها ألسنة الأحوال بعد التنبيه بالمقال، ساق ذلك بسوقه في أسلوب الاستفهام مساقاً منبهاً على أنه من العظمة بحيث يفرغ الزمان للعناية بالسؤال عنه فقال: { كيف كان عاقبة } أي آخر أمر { الذين } ولما كان يمكنهم معرفة ذلك من جميع المهلكين، نبه بإثبات الجار على أنهم بعضهم بل بعض المكذبين للرسل، وهم الذين سمعوا أخبارهم ورأوا ديارهم بعاد وثمود ومدين وسا وقوم لوط فقال تعالى: { من قبلهم } ولما كان كأنه قيل: ما لهم؟ قال: { دمر الله } أي أوقع الملك الأعظم الهلاك العظيم الداخل بغير إذن، الهاجم بغتة { عليهم } بما علم أهاليهم وأحوالهم وكل من رضي فعالهم أو مقالهم، وعدل عن أن يقول: "ولهؤلاء" إلى قوله: { وللكافرين } تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف وهو العراقة في الكفر، فكان فيه بشارة بأن بعضهم سينجيه الله تعالى من أسباب الهلاك لكونه ليس عريقاً في الكفر، لأنه لم يطبع عليه { أمثالها * } أي أمثال هذه العاقبة.
ولما بين أن يعلي أولياءه ويذل أعداءه، بين علته فقال: { ذلك } أي الأمر العظيم الذي فعله بالفريقين { بأن الله } أي بسبب أن الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال { مولى الذين آمنوا } أي القريب من المصدقين به المرضين له، فهو يفعل معهم بما له من الجلال والجمال ما يفعل القريب بقريبه الحبيب له، قال القشيري: ويصح أن يقال: أرجى آية في كتاب الله هذه الآية لأنه لم يقل: الزهاد والعباد وأصحاب الأوراد والاجتهاد. يعني بل ذكر أدنى أسنان أهل الإيمان. { وأن الكافرين } أي العريقين في هذا الوصف { لا مولى لهم * } بهذا المعنى، لأنهم بعيدون من الله الذي لا يعبد على الحقيقة إلا هو، فلا ينفعهم قرب قريب أصلاً وإن كان الله مولاهم بغير هذا المعنى بل بمعنى أنه سيدهم ومالكهم، وفيه إيماء إلى أنه سبحانه وتعالى ولي من لم يكن عريقاً في الكفر فيخرجه من الظلمات إلى النور.
ولما تشوف السامع إلى تعرف تمام آثار الولاية، قال شافياً لعيّ سؤالهم مؤكداً لأجل كثرة المكذبين: { إن الله } أي الذي له جميع الكمال { يدخل الذين آمنوا } أي أوقعوا التصديق { وعملوا } تصديقاً لما ادعوا أنهم أوقعوه { الصالحات } فتمتعوا بما رزقهم الله من الملاذ لا على وجه أنها ملاذ بل على وجه أنها مأذون فيها، وهي بلاغ إلى الآخرة وأكلوا لا للترفه بل لتقوية البدن على ما أمروا به تقوتاً لا تمتعاً { جنات } أي بساتين عظيمة الشأن موصوفة بأنها { تجري } وبين قرب الماء من وجهها بقوله: { من تحتها الأنهار } أي فهي دائمة النمو والبهجة والنضارة والثمرة لأن أصول أشجارها ربى وهي بحيث متى أثرت بقعة مناه أدنى إثارة جرى منها نهر، فأنساهم دخولهم غصص ما كانوا فيه في الدنيا من نكد العيش ومعاناة الشدائد، وضموا نعيمها إلى ما كانوا فيه في الدنيا من نعيم الوصلة بالله ثم لا يحصل لهم كدر ما أصلاً، وهي مأواهم لا يبغون عنها حولاً، وهذا في نظير ما زوي عنهم من الدنيا وضيق فيها عيشهم نفاسة منهم عنها حتى فرغهم لخدمته وألزمهم حضرته حباً لهم وتشريفاً لمقاديرهم { والذين كفروا } أي غطوا ما دل عليه العقل فعملوا لأجل كفرهم الأعمال الفاسدة المبعدة عن جناب الله { يتمتعون } أي في الدنيا بالملاذ لكونها ملاذ كما تتمتع الأنعام، ناسين ما أمر الله معرضين عن لقائه بل عن الموت أصلاً بل يكون ذكر الموت حاثاً لهم على الانهماك في اللذات مسابقة له جهلاً منهم بالله { ويأكلون } على سبيل الاستمرار { كما تأكل الأنعام } أكل التذاذ ومرح من أيّ موضع كان وكيف كان الأكل في سبعة أمعاء، أي في جميع بطونهم من غير تمييز للحرام من غيره لأن الله تعالى أعطاهم الدنيا ووسع عليهم فيها وفرغهم لها حتى شغلهم عنه هواناً بهم وبغضاً لهم لأنه علم حالهم قبل أن يوجدهم فيدخلهم ناراً وقودها الناس والحجارة { والنار } أي والحال أن ذات الحرارة العظمى والإحراق الخارج عن الحد { مثوى } أي منزل ومقام { لهم * } تنسيهم أول انغماسهم فيها كل نعيم كانوا فيه ثم لا يصير لهم نعيم ما أصلاً، بل لا ينفك عنهم العذاب وقتاً ما، فالآية من الاحتباك، ذكر الأعمال الصالحة ودخول الجنات أولاً دليلاً على حذف الفاسدة ودخول النار ثانياً، والتمتع والمثوى ثانياً دليلاً على حذف التعلل والمأوى أولاً، فهو احتباك في احتباك واشتباك مقارن لاشتباك.
ولما وعد سبحانه أنه ينصر من ينصره لأنه مولاه ويدخله دار نعمته، ويخذل من يعانده لأنه عاداه إلى أن يدخله دار شقوته، كان التقدير دليلاً على ذلك: فكأين من قوم هم أضعف من الذين اتبعوك نصرناهم على من كذبهم، فلا خاذل لهم، فعطف عليه قوله: { وكأين } ولما كانت قوة قريش في الحقيقة ببلدهم، وكان الإسناد إليها أدل على تمالؤ أهلها وشدة اتفاقهم حتى كأنهم كالشيء الواحد قال: { من قرية } أي كذبت رسولها { هي أشد قوة } وأكثر عدة { من قريتك } ولما كان إنزال هذه بعد الهجرة، عين فقال: { التي أخرجتك } أي أخرجك أهلها متفقين في أسباب الإخراج من أنواع الأذى على كلمة واحدة حتى كأن قلوبهم قلب واحد فكأنها هي المخرجة - وهي مكة - كذبوك وآذوك حتى أخرجناك من عندهم لننصرك عليهم بمن أيدناك بهم من قريتك هذه التي آوتك من الأنصار نصراً جارياً على ما تألفونه وتعتادونه { أهلكناهم } بعذاب الاستئصال كما اقتضت عظمتنا، وحكى حالهم الماضية بقوله: { فلا ناصر لهم * }.
ولما كان هذا دليلاً شهودياً بعد الأدلة العقلية على ما تقدم الوعد به، سبب عنه الإنكار عليهم فقال: { أفمن كان } أي في جميع أحواله { على بينة } أي حالة ظاهرة البيان في أنها حق { من ربه } المربي المدبر له المحسن إليه بما يقيم من الأدلة التي تعجز الخلائق أجمع عن أن يأتوا بواحد منها فبصر سوء عمله وأريه على حقيقته فرآه سيئاً فاجتنبه مخالفاً لهواه، قال القشيري: العلماء في ضياء برهانهم والعارفون في ضياء بيانهم. { كمن زين له } بتزيين الشيطان بتسليطنا له عليه وخلقنا للآثار بأيسر أمر { سوء عمله } من شرك أو معصية دونه.
ولما كان التقدير: فرآه حسناً فعمله ملازماً له، فكان على عمى وضلال، وكان قد أفرد الضمير لقبول "من" له من جهة لفظها، جمع رداً على معناها بتعميم القبح مثنى وفرادى، وإشارة إلى أن القبيح يكون أولاً قليلاً جداً، فمتى غفل عنه فلم تحسم مادته دب وانتشر فقال عاطفاً على ما قدرته: { واتبعوا أهواءهم * } فلا شبهة لهم في شيء من أعمالهم السيئة فضلاً عن دليل، والآية من الاحتباك ذكر البينة أولاً دليلاً على ضدها ثانياً، والتزيين واتباع الهوى ثانياً دليلاً على ضدهما أولاً، وسره أنه ذكر الأصل الجامع للخير ترغيباً والأصل الجامع للشر ترهيباً.