نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
ولما كان فيها إقامة الشهود وحبسهم عن مقاصدهم حتى يفرغوا من هذه الواقعة
المبحوث فيها عن خفايا متعلقة بالموت والتغليظ بالتحليف بعد صلاة العصر، وكانت
ساعة يجتمع فيها الناس وفريقا الملائكة المتعاقبين فينا ليلاً ونهاراً مع أنها ساعة الأصيل
المؤذنة بهجوم الليل وتقوّض النهار حتى كأنه لم يكن ورجوع الناس إلى منازلهم
وتركهم لمعايشهم، وكانت عادته سبحانه بأنه يذكر أنواعاً من الشرائع والتكاليف، ثم
يتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء وإما بشرح أحوال القيامة، ليصير ذلك
مؤكداً لما تقدم من التكاليف، ولا ينتقل من فن إلى آخر إلا بغاية الإحكام في الربط،
عقبها تعالى بقوله: { يوم يجمع الله } أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة الكاملة
{ الرسل } أي الذين أرسلهم إلى عباده بأوامره ونواهيه إشارة إلى تذكر انصرام هذه الدار
وسرعة هجوم ذلك بمشاهدة هذه الأحوال المؤذنة به وبأنه يوم يقوم فيه الأشهاد،
ويجتمع فيه العباد، ويفتضح فيه أهل الفساد - إلى غير ذلك من الإشارات لأرباب
البصائر والقلوب، والظاهر أن "يوم" ظرف للمضاف المحذوف الدال عليه الكلام، فإن
من المعلوم أنك إذا قلت: خف من فلان، فإن المعنى: خَف من عقابه ونحو ذلك،
فيكون المراد هنا: واتقوا غضب الله الواقع في ذلك اليوم، أي اجعلوا بينكم وبين
سطواته في ذلك اليوم وقايةً، أو يكون المعنى: اذكروا هذه الواقعة وهذا الوقت الذي
يجمع فيه الشهود ويحبس المعترف والجحود يوم الجمع الأكبر بين يدي الله تعالى
ليسألهم عن العباد ويسأل العباد عنهم { فيقول } أي للرسل تشريعاً لهم وبياناً لفضلهم
وتشريفاً للمحق من أممهم وتبكيتاً للمبطل وتوبيخاً للمُفْرط منهم والمفرّط.
ولما كان مما لا يخفى أصلاً أنهم أجيبوا، ولا يقع فيه نزاع ولا يتعلق بالسؤال عنه
غرض، تجاوز السؤال إلى الاستفهام من نوع الإجابة فقال: { ماذا أجبتم } أي أيّ إجابة
أجابكم من أرسلتم إليهم؟ إجابة طاعة أو إجابة معصية.
ولما كان المقصود من قولهم بيان الناجي من غيره، وكانت الشهادة في تلك الدار
لا تنفع إلا فيما وافق فيه الإضمار الإظهار، فكانت شهادتهم لا تنفع المشهود له بحسن
الإجابة إلا أن يطابق ما قاله بلسانه اعتقاده بقلبه { قالوا } نافين لعلمهم أصلاً ورأساً إذا
كان موقوفاً على شرط هو من علم ما غاب ولا علم لهم به { لا علم لنا } أي على
الحقيقة لأنا لا نعلم إلا ما شهدناه، وما غاب عنا أكثر، وإذا كان الغائب قد يكون
مخالفاً للمشهود، فما شهد ليس بعلم، لأنه غير مطابق للواقع، ولهذا عللوا بقولهم:
{ إنك أنت } أي وحدك { علام الغيوب * } أي كلها، تعلمها علماً تاماً فكيف بما غاب
عنا من أحوال قومنا! فكيف بالشهادة! فكيف بما شهدنا من ذلك! وهذا في موضع
قولهم: أنت أعلم، لكن هذا أحسن أدباً، فإنهم محوا أنفسهم من ديوان العلم بالكلية،
لأن كل علم يتلاشى إذا نسب إلى علمه ويضمحل مهما قرن بصفته أو اسمه.
ولما كان سؤاله سبحانه للرسل عن الإجابة متضمناً لتبكيت المبطلين وتوبيخهم،
وكان أشد الأمم افتقاراً إلى التوبيخ أهل الكتاب، لأن تمردهم تعدى إلى رتبة الجلال
بما وصفوه سبحانه به من اتخاذ الصاحبة والولد، ومن ادعاء الإلهية لعيسى عليه السلام
لما أظهر من الخوارق التي دعا بها إلى الله مع اقترانها بما يدل على عبوديته ورسالته لئلا
يهتضم حقه أو يُغلى فيه، مع مشاركتهم لغيرهم في أذى الرسل عليهم السلام بالتكذيب
وغيره، وكان في الآية السالفة ذكر الآباء وما آثروا للأبناء، ذكر أمر عيسى عليه السلام
بقوله مبدلاً من قوله: { يوم يجمع الله } معبراً بالماضي تذكيراً بما لذلك اليوم من تحتم
الوقوع، وتصويراً لعظيم تحققه، وتنبيهاً على أنه لقوة قربه كأنه قد وقع ومضى: { إذ
قال الله } أي المستجمع لصفات الكمال { يا عيسى } ثم بينه بما هو الحق من نسبه فقال:
{ ابن مريم }.
ولما كان ذلك يوم الجمع الأكبر والإحاطة بجميع الخلائق وأحوالهم في حركاتهم
وسكناتهم، وكان الحمد هو الإحاطة بأوصاف الكمال، أمره بذكر حمده سبحانه على
نعمته عنده فقال: { اذكر نعمتي عليك } أي في خاصة نفسك، وذكر ما يدل للعاقل
على أنه عبد مربوب فقال: { وعلى والدتك } إلى آخره مشيراً إلى أنه أوجده من غير أب
فأراحه مما يجب للآباء من الحقوق وما يورثون أبناءهم من اقتداء أو اهتداء وإقامة
بحقوق أمه، فأقدره - وهو في المهد - على الشهادة لها بالبراءة والحصانة والعفاف، وكل
نعمة أنعمها سبحانه عليه صلى الله عليه وسلم فهي نعمة أمه ديناً ودنيا.
ولما ذكر سبحانه هذه الأمة المدعوة من العرب وأهل الكتاب وغيرهم بنعمه
عليهم في أول السورة بقوله: { { اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه } [المائدة: 7]،
{ { واذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم } [المائدة: 11]، وكانت هذه الآيات من عند { { لا
تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } [المائدة: 87] كلها في النعم، أخبرهم أنه يذكّر عيسى
عليه السلام بنعمه في يوم الجمع إشارة إلى أنهم إن لم يذكروا نعمه في هذه الدار دار
العمل بالشكر، ذكروها حين يذكّرهم بها في ذلك اليوم قسراً بالكفر، ويا لها فضيحةً في
ذلك الجمع الأكبر والموقف الأهول! وليتبصّر أهل الكتاب فيرجعوا عن كفرهم بعيسى
عليه السلام: اليهودُ بالتقصير في أمره، والنصارى بالغلو في شأنه وقدره.
ولما كان أعظم الأمور التنزيه، بدأ به كما فعل بنفسه الشريفة في كلمة الدخول
إلى الإسلام، ولما كان أعظم ذلك تنزيهه أمه عليها السلام وتصحيح ما خرق لها من
العادة في ولادته، وكان أحكم ما يكون ذلك بتقوية روحه حتى يكون كلامه طفلاً
ككلامه كهلاً، قدمه فقال معلقاً قارناً بكل نعمة ما يدل على عبوديته ورسالته، ليخزي
من غلا في أمره أو قصّر في وصفه وقدره: { إذ أيدتك } أي قويتك تقوية عظيمة { بروح
القدس } أي الطهر الذي يحيي القلوب ويطهرها من أوضار الآثام، ومنه جبرئيل عليه
السلام، فكان له منه في الصغر حظ لم يكن لغيره؛ قال الحرالي: وهو يد بسط لروح
الله في القلوب بما يحييها الله به من روح أمره إرجاعاً إليه في هذه الدار قبل إرجاع روح
الحياة بيد القبض من عزرائيل عليه السلام ثم استأنف تفسير هذا التأييد فقال: { تكلم
الناس } أي من أردت من عاليهم وسافلهم { في المهد } أي بما برأ الله من أمك وأظهر
به كرامتك وفضلك.
ولما ذكر هذا الفضل العظيم، أتبعه خارقاً آخر، وهو إحياؤه نفسه وحفظُه جسدَه
أكثر من ألف سنة لم يدركه الهرم؛ فإنه رفع شاباً وينزل على ما رفع عليه ويبقى حتى
يصير كهلاً، وتسويةُ كلامه في المهد بكلامه في حال بلوغ الأشدّ وكمال العقل خرقاً لما
جرت به العوائد فقال: { وكهلاً } ولما ذكر هذه الخارقة، أتبعها روح العلم الرباني
فقال: { وإذ علمتك الكتاب } أي الخط الذي هو مبدأ العلم وتلقيح لروح الفهم
{ والحكمة } أي الفهم لحقائق الأشياء والعمل بما يدعو إليه العلم { والتوراة } أي
المنزلة على موسى عليه السلام { والإنجيل } أي المنزل عليك.
ولما ذكر تأييده بروح الروح، أتبعه تأييده بإفاضة الروح على جسد لا أصل له فيها
فقال: { وإذ تخلق من الطين } أي هذا الجنس { كهيئة الطير بإذني } ثم سبب عن ذلك
قوله: { فتنفخ فيها } أي في الصورة المهيأة { فتكون } أي تلك الصورة التي هيأتها
{ طيراً بإذني } ثم بإفاضة روح ما على بعض جسد، إما ابتداء في الأكمة كما في الذي
قبله، وإما إعادة كما في الحادث العمى والبرص بقوله: { وتبرئ الأكمه والأبرص }.
ولما كان من أعظم ما يراد بالسياق توبيخ من كفر به كرر قوله: { بإذني } ثم برد
روح كامل إلى جسدها بقوله: { وإذ تخرج الموتى } أي من القبور فعلاً أو قوة حتى
يكونوا كما كانوا من سكان البيوت { بإذني } ثم بعصمة روحه ممن أراد قتله بقوله:
{ وإذ كففت بني إسرائيل عنك } أي اليهود لما هموا بقتلك؛ ولما كان ذلك ربما أوهم
نقصاً استحلوا قصده به، بين أنه قصد ذلك كعادة الناس مع الرسل والأكابر من أتباعهم
تسلية لهذا النبي الكريم والتابعين له بإحسان فقال: { إذ جئتهم بالبينات } أي كلها،
بعضها بالفعل والباقي بالقوة لدلالة ما وجد عليه من الآيات الدالة على رسالتك الموجبة
لتعظيمك { فقال الذين كفروا } أي غطوا تلك البينات عناداً { منهم إن } أي ما { هذا إلا
سحر مبين * } ثم بتأييده بالأنصار الذين أحيى أرواحهم بالإيمان وأجسادهم باختراع
المأكل الذي من شأنه في العادة حفظ الروح، وذلك في قصة المائدة وغيرها فقال:
{ وإذ أوحيت } أي بإلهام باطناً وبإيصال الأوامر على لسانك ظاهراً { إلى الحواريين }
أي الأنصار { أن آمنوا بي وبرسولي } أي الذي أمرته بالإبلاغ يعني إبلاغ الناس ما آمرهم
به، ثم استأنف مبيناً لسرعة أجابتهم لجعله محبباً إليهم مطاعاً فيهم بقوله: { قالوا آمنا }.
ولما كان الإيمان باطناً فلا بد في إثباته من دليل ظاهر، وكان في سياق عدّ النعم
والطواعية لوحي الملك الأعظم دلوا عليه بتمام الانقياد، ناسب المقام زيادة التأكيد
بإثبات النون الثالثة في قولهم: { واشهد بأننا } بخلاف آل عمران { مسلمون * } أي
منقادون أتم انقياد، فلا اختيار لنا إلا ما تأمرنا به، وانظر ما أنسب إعادة "إذ" عند التذكير
بروح كامل حساً أو معنى وحذفها عند الناقص، فأثبتها عند التأييد بها في أصل الخلق
وفي الكمال الموجب للحياة الأبدية وفي تعليم الكتاب وما بعده المفيض لحياة الأبد
على كل من تخلّق بأخلاقه وفي خلق الطير وهو ظاهر وهكذا إلى الآخر.
ذكرُ شيء مما عزي إليه من الحكمة في الإنجيل: قال متى: وكان يسوع يطوف
المدن والقرى ويعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل الأمراض
والأوجاع، ثم قال: فلما سمع يوحنا في السجن بأعمال المسيح أرسل إليه اثنين من
تلاميذه قائلاً: أنت هو الآتي أم نترجى آخر؟ قال لوقا: وفي تلك الساعة أبرأ كثيراً من
الأمراض والأوجاع والأرواح الشريرة ووهب النظر لعميان كثيرين، فأجاب يسوع وقال
لهما: اذهبا وأعلما يوحنا بما رأيتما وسمعتما، العميان يبصرون والعرج يمشون والبرص
يتطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون، فطوبى لمن لا يشك
فيّ! فلما ذهب تلميذا يوحنا بدأ يسوع يقول للجمع من أجل يوحنا: لماذا خرجتم إلى
البرية تنظرون - قال لوقا: قصبة تحركها الريح - أم لماذا خرجتم تنظرون؟ إنساناً لابساً
لباساً ناعماً؟ إن اللباس الناعم يكون في بيوت الملوك، قال لوقا: فإن الذين عليهم
لباس المجد والتنعم هم في بيوت الملوك - انتهى. لكن لماذا خرجتم تنظرون؟ نبياً؟
نعم، أقول لكم: إنه أفضل من هذا الذي كتب من أجله: هوذا أنا مرسل ملكي أمام
وجهك ليسهل طريقك قدامك، الحق أقول لكم! إنه لم يقم في مواليد النساء أعظم من
يوحنا المعمد، والصغير في ملكوت السماء أعظم منه، وجميع الشعب الذي سمع
والعشارون شكروا الله حيث اعتمدوا من معمودية يوحنا، فأما الفريسيون والكتاب
فعلموا أنهم رفضوا أمر الله لهم إذ لم يعتمدوا منه؛ قال متى: ثم قال: من له أذنان
سامعتان فليسمع! بماذا أشبه هذا الجيل؟ يشبه صبياناً جلوساً في الأسواق، يصيحون إلى
أصحابهم قائلين: زمّرنا لكم فلم ترقصوا، ونحنا لكم فلم تبكوا، جاء يوحنا لا يأكل
ولا يشرب، فقالوا: معه جنون، جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فقالوا: هذا إنسان
أكول شرّيب خليل العشارين والخطأة، فتبررت الحكمة من بنيها، حينئذ بدأ يعيّر المدن
التي كان فيها أكثر قواته، لأنهم لم يتوبوا، ويقول: الويل لك يا كورزين! والويل لك يا
بيت صيدا! لأن القوات اللاتي كنّ فيكما قديماً لو كنّ في صور وصيدا لتابوا بالمسوح
والرماد، لكن أقول لكم: إن لصور وصيدا راحة في يوم الدين أكثر منكن، وأنت يا
كفرناحوم لو ارتفعت إلى السماء ستهبطين إلى الجحيم، لأنه لو كان في سدوم هذه
القوات التي كانت فيك إذن لثبتت إلى اليوم، وأقول لكم أيضاً: إن أرض سدوم تجد
راحة يوم الدين أكثر منك. ثم قال: وانتقل يسوع من هناك ودخل إلى مجمعهم وإذا
رجل هناك يده يابسة - وقال لوقا: يده اليمنى يابسة - فسألوه قائلين: هل يحل أن يشفى
في السبت؟ فقال لهم: أي إنسان منكم يكون له خروف، يسقط في حفرة في السبت،
ولا يمسكه ويقيمه؟ فبكم أحزي الإنسان أفضل من الخروف، فإذن جيد هو فعل الخير
في السبت؛ وقال لوقا: فقال للرجل اليابس اليد: قف في الوسط، فقام، وقال لهم
يسوع: أسألكم ماذا يحل أن يعمل في السبت؟ خير أم شر؟ نفس تخلص أم تهلك؟
فسكتوا؛ قال متى: حينئذ قال للإنسان: أمدد يدك، فمدها فصحت مثل الأخرى،
فخرج الفريسيون - قال مرقس: مع أصحاب هيرودس - متوامرين في إهلاكه، فعلم
يسوع وانتقل من هناك وتبعه جمع كثير، فشقى جميعهم، وأمرهم أن لا يظهروا ذلك
لكي يتم ما قيل في أشعيا النبي القائل: ها هوذا فتاي الذي هويت، وحبيبي الذي به
سررت، أضع روحي عليه ويخبر الأمم بالحكم، لا يماري ولا يصيح ولا يسمع أحد
صوته في الشوارع، قصبة مرضوضة لا تكسر، وسراج مطفطف لا يطفأ حتى يخرج
الحكم في الغلبة، وعلى اسمه تتكل الأمم؛ ثم قال: وفي ذلك اليوم خرج يسوع من
البيت وجلس جانب البحر، فاجتمع إليه جمع كبير حتى أنه صعد إلى السفينة وجلس،
وكان الجمع كله قياماً على الشطّ، وكلهم بأمثال كثيرة قائلاً: ها هو ذا خرج الزارع
ليزرع، وفيما هو يزرع سقط البعض على الطريق، فأتى الطير وأكله - وقال لوقا: فديس
وأكله طائر السماء - وبعض سقط على الصخرة حيث لم يكن له أرض كثيرة، وللوقت
شرق إذ ليس له عمق أرض، ولما أشرقت الشمس احترق، وحيث لم يكن له أصل
يبس، وبعض سقط في الشوك فطلع الشوك وخنقه؛ وقال مرقس: فخنقه بعلوه عليه فلم
يأتي بثمرة؛ وقال متى: وبعض سقط في الأرض الجيدة فأعطى ثمره، للواحد مائة
وللآخر ستين وللآخر ثلاثين - قال لوقا: فلما قال هذا نادى: من له أذنان سامعتان
فليسمع - فتقدم إليه تلاميذه وقالوا له: لماذا تكلمهم بالأمثال؟ فأجابهم وقال: أنتم
أعطيتم معرفة سرائر ملكوت السماوات - وقال لوقا: فقال لهم: لكم أعطي علم سرائر
ملكوت الله - وأولئك لم يعطوا، ومن كان له يعطي ويزاد، ومن ليس له فالذي له يؤخذ
منه - وقال لوقا: والذي ليس له ينزع منه الذي يظن أنه له - فلهذا أكلمهم بالأمثال،
لأنهم يبصرون فلا يبصرون، ويسمعون فلا يسمعون ولا يفهمون، لكي تتم فيهم نبوة
أشعيا لقائل: سمعاً يسمعون فلا يفهمون، ونظراً ينظرون فلا يبصرون، لقد غلظ قلب
هذا الشعب، وثقلت آذانهم عن السماع، وغمضوا أعينهم لكيلا يبصروا بعيونهم ولا
يسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم، فأما أنتم فطوبى لعيونكم! لأنها
تنظر، ولآذانكم! لأنها تسمع؛ وقال لوقا: ومثل الزرع هذا هو كلام الله؛ وقال متى:
كل من يسمع كلام الملكوت ولا يفهم يأتي الشرير فيخطف ما يزرع في قلبه، هذا الذي
زرع على الطريق، والذي زرع على الصخرة هو الذي يسمع الكلام وللوقت يقبله بفرح،
وليس له فيه أصل، لكن في زمان يسير، إذا حدث ضيق أو طرد فللوقت يشك - وقال
مرقس: بسبب الكلمة فيشكون للوقت: وقال لوقا: وهم إنما يؤمنون إلى زمان التجربة،
وفي زمان التجربة يشكون - والذي يزرع في الشوك فهو الذي يسمع الكلام فيخنق الكلام
فيه؛ وقال لوقا: فتغلب عليهم هموم هذا الدهر وطلب الغنى؛ وقال مرقس: ومحبة
الغنى وسائر الشهوات التي يسلكونها، فتخنق الكلمة فلا تثمر فيهم؛ وقال متى: فيكون
بغير ثمرة، والذي زرع في الأرض الجيدة هو الذي يسمع الكلام ويتفهم ويعطي ثمره؛
وقال لوقا: وأما الذي وقع في الأرض الصالحة فهم الذين يسمعون الكلمة بقلب جيد
فيحفظونها ويثمرون بالصبر؛ قال متى: للواحد مائة وللآخر ستين وللآخر ثلاثين.
وضرب لهم مثلاً آخر قائلاً: يشبه ملكوت السماوات إنساناً زرع زرعاً جيداً في حقله،
فلما نام الناس جاء عدوه فزرع زواناً في وسط القمح ومضى، فلما نبت القمح ظهر
الزوان، فجاء عبيد رب البيت فقالوا له: يا سيد! أليس زرعاً جيداً زرعت في حقلك!
فمن أين صار فيه زوان؟ فقال لهم: عدو فعل هذا، فقال عبيده: تريد أن نذهب
فنجمعه؟ فقال لهم: لا، لئلا تنقلع معه الحنطة، دعوهما ينبتان جميعاً إلى زمان
الحصاد، وأقول للحصادين: أولاً اجمعوا الزوان فشدوه حزماً ليحرق، فأما القمح
فاجمعوه إلى أهرائي. وضرب لهم مثلاً آخر قائلاً: يشب ملكوت السماوات حبة خردل
أخذها إنسان وزرعها في حقله، لأنها أصغر الزراريع كلها - وقال مرقس: وهي أصغر
الحبوب التي على الأرض - فإذا طالت صارت أكبر من جميع البقول وتصير شجرة -
وقال مرقس: وصنعت أغصاناً عظاماً؛ وقال لوقا: فنمت وصارت شجرة عظيمة - حتى
أن طائر السماء يستظل تحت أغصانها. وكلمهم بمثل آخر وقال لهم: يشبه ملكوت
السماوات خميراً أخذته امرأة وعجنته في ثلاثة أكيال دقيق فاختمر الجميع؛ وقال
مرقس: وكان يقول لهم: هل يوقد سراج فيوضع تحت مكيال أو سرير، لكن على
منارة؛ وقال لوقا: ليس أحد يوقد سراجاً فيغطيه، ولا يجعله تحت سرير، لكن يضعه
على منارة فيرى نوره كل من يدخل؛ قال مرقس: كذلك ليس خفي إلا سيظهر، ولا
مكتوم إلا سيعلن؛ وقال لوقا: سراج الجسد العين، فإذا كانت عينك بسيطة فجسدك كله
نير، وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً أحرص أن لا يكون النور الذي
فيك ظلاماً، فإن كان جسدك كله نيراً وليس فيه جزء مظلم فإنه يكون كاملاً نيراً، كما أن
السراج ينير لك بلمع ضيائه؛ وقال مرقس: من له أذنان سامعتان فليسمع، وقال لهم:
انظروا ماذا تسمعون، فبالكيل الذي تكيلون يكال لكم - وتزادون أيها السامعون لأن الذي
له يعطي ومن ليس عنده فالذي عنده يؤخذ منه، وقال: يشبه ملكوت الله إنساناً يلقي
زرعه على الأرض وينام، ويقوم ليلاً ونهاراً والزرع ينمو ويطول وهو لا يعلم، أولاً
أعشب وبعد ذلك سَنُبل، ثم يمتلئ السنبل حتى إذا انتهت الثمرة حينئذ يضع المنجل إذ
قد دنا الحصاد؛ قال متى: هذا كله قاله يسوع للجموع ليتم ما قيل في النبي القائل:
أفتح فاي بالأمثال وأنطق بالخفيات من قبل أساس العالم. حينئذ ترك الجمع وجاء إلى
البيت فجاء إليه تلاميذه وقالوا: فسر لنا مثل زوال الحقل، أجاب: الذي زرع الزرع
الجيد هو ابن الإنسان، والحقل هو العالم، والزرع الجيد هو بنو الملكوت، والزوان هو
بنو الشر، والعدو الذي زرعه هو الشيطان، والحصاد هو منتهى الدهر، والحصادون هم
الملائكة، فكما أنهم يجمعون الزوان أولاً، وبالنار يحرق، هكذا يكون منتهى هذا
الدهر، يرسل ملائكته ويجمعون من مملكته كل الشوك وفاعلي الإثم، فيلقونهم في
أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان، حينئذ يضيء الصديقون مثل الشمس في
ملكوت أبيهم، من له أذنان سامعتان فليسمع. ويشبه ملكوت السماوات كنزاً مُخفىّ في
حقل وجده إنسان فخبأه، ومِن فرحه مضى وباع كل شيء واشترى ذلك الحقل. وأيضاً
يشبه ملكوت السماوات إنساناً تاجراً بطلب الجوهر الفاخر الحسن. فوجد درة كثيرة
الثمن فمضى وباع كل ماله واشتراها. وأيضاً يشبه ملكوت السماوات شبكة ألقيت في
البحر فجمعت من كل جنس، فلما امتلأت أطلعوها إلى الشّط فجلسوا وجمعوا الخيار
في الأوعية، والرديء رموه خارجاً، هكذا يكون في انقضاء هذا الزمان، تخرج الملائكة
ويميزون الأشرار من وسط الصديقين. ويلقونهم في أتون النار. هناك يكون البكاء
وصرير الأسنان. فلما أكمل يسوع هذه الأمثال انتقل من هناك وجاء إلى بلدته وكان
يُعلِّم في مجامعهم حتى أنهم بهتوا وقالوا: من أين له هذه الحكمة والقوة! وقال مرقس:
من أين له هذا التعليم وهذه الحكمة التي أعطيها والقوات التي تكون على يديه - انتهى.
أليس هذا ابن النجار؟ وقال لوقا: وكان جميعهم يشهدون له ويتعجبون من كلام النعمة
الذي كان يخرج من فمه، وكانوا يقولون: أليس هذا ابن يوسف؟ انتهى. أليس أمه
تسمى مريم وإخوته يعقوب ويوسا وسمعان ويهودا؟ أليس هو وأخواته عندنا جميعاً؟
فمن أين له هذا كله؟ وكانوا يشكون فيه، فإن يسوع قال لهم: لا يهان نبي إلا في بلدته
وبيته؛ وقال مرقس: ليس يهان نبي إلا في بلدته وعند أنسابه وبيته؛ وقال لوقا: فقال
لهم: لعلكم تقولون لي هذا المثل: أيها الطبيب! اشف نفسك والذي سمعنا أنك صنعته
في كفرناحوم افعله أيضاً ههنا في مدينتك، فقال لهم: الحق أقول لكم، إنه لا يقبل نبي
في مدينته، الحق أقول لكم، إن الأرامل كثيرة كنّ في إسرائيل في أيام إليا إذ أغلقت
السماء ثلاث سنين وستة أشهر، وصار جوع عظيم في الأرض كلها، ولم يرسل إلياء
إلى واحدة منهن إلا أرملة في صارفة صيدا، وبرص كثيرون كانوا في إسرائيل على عهد
اليشع النبي ولم يطهر واحد منهم إلا نعمان الشامي، فامتلأ جميعهم غضباً عندما سمعوا
هذا وأخرجوه خارج المدينة، وجاؤوا به إلى أعلى الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه
ليطرحوه إلى أسفل، فأما هو فجاز وسطهم ومضى، ونزل إلى كفرناحوم مدينة في
الجليل، وكان يعلمهم في السبت وبهتوا من تعليمه لأن كلامه كان بسلطان. وقال في
موضع آخر: وجاء إليه ناس من الفريسيين وقالوا له: اخرج فاذهب من ههنا فإن
ثيرودس يريد ليقتلك، فقال لهم: امضوا وقولوا لهذا الثعلب: إني هوذا أخرج الشياطين
وأتم الشفاء اليوم وغداً وفي اليوم الثالث أكمل، وينبغي أن أقيم اليوم وغداً، وفي اليوم
الآتي أذهب، لأنه ليس يهلك نبي خارجاً عن يروشليم، أيا يروشليم! أيا يروشليم! يا
قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها! كم من مرة أردت أن أجمع بنيك مثل الدجاجة التي
تجمع فراخها تحت جناحيها فلم تريدوا، هوذا أترك بيتكم خراباً، فسمع هيرودس رئيس
الربع بجميع ما كان فتحير، لأن كثيراً كانوا يقولون: إن يوحنا قام من الأموات،
وآخرون يقولون: إن إليا ظهر، وآخرون يقولون: نبي من الأولين قام، فقال هيرودس:
أنا قطعت رأس يوحنا فمن هو الذي نسمع عنه هذا، وطلب أن يبصره؛ وفي إنجيل
متى: وفي ذلك الزمان سمع هيرودس رئيس الربع خبر يسوع فقال لغلمانه: هذا هو
يوحنا المعمدان، وهو قام من الأموات من أجل هذه القوات التي يعمل بها. قوله:
المعمد، من أعمده - إذا غسله في ماء المعمودية، قوله: تبررت، أي صارت برية
بالنسبة إليهم، قوله: يعيّر المدن، أي يذكر ما أوجب لها العار، قوله: القوات جمع قوة
وهي المعجزات هنا، قول: الذي هويت، يعني أحببت حباً شديداً، ولفظ الهوى الظاهر
أنه يفهم نقصاً فلا يحل في شرعنا إطلاقه على الله تعالى، قوله: مطفطف، أي مملوء
إلى رأسه، لا يزال كذلك، قوله: شرق - وزن: فرح، أي ضعف، من: شرق بريقه،
وشرقت الشمس - إذا ضعف ضوءها، قوله: أتون وهو وزن تنور وقد يخفف: أخدود
الجيار والجصاص، قوله: بسيطة، أي على الفطرة الأولى، قوله: يروشليم - بتحتانية
ومهملة وشين معجمة: بيت المقدس، قوله: ملكوت أبيهم، تقدم ما فيه غير مرة.