خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٦٣
قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
١٦٤
وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٦٥
-الأنعام

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أعلم أنه يستحقه لذاته ووصفه، أعلم أنه يستحقه وحده فقال: { لا شريك له } أي ليكون لشريكه على زعمكم شيء من العبادة لما كان له شيء من الربوبية، فأبان بهذا أن وجهه صلى الله عليه وسلم ووجه من تبعه واحد لا افتراق فيه، وهو قصد الله وحده على سبيل الإخلاص كما أنه يوحد بالإحياء والإماتة فينبغي أن يوحد بالعبادة.
ولما دل على ذلك ببرهان العقل، أتبعه بجازم النقل فقال عاطفاً على ما تقديره: إلى ذلك أرشدني دليل العقل: { وبذلك } أي الأمر العالي من توجيه أموري إليه على وجه الإخلاص.
ولما كان له سبحانه في كل شيء آية تدل على أنه واحد، فكان كل شيء آمراً بالتوحيد بلسان حاله أو ناطق قاله، بني للمفعول قوله: { أمرت } أي يعني أن هذا الدين لو لم يرد به أمر كان ينبغي للعاقل أن يدين به ولا يعدل عنه لشدة ظهوره وانتشار نوره بما قام عليه من الدلائل ودرج على اتباعه من الأفاضل والأماثل، فكيف إذا برزت به الأوامر الإلهية ودعت إليه الدواعي الربانية { وأنا أول المسلمين * } أي المنقادين لما يدعو إليه داعي الله في هذا الدين، لا اختيار لي أصلاً، بل أنا مسلوب الاختيار فيه منقاد أتم انقياد، وهذه الأولية على سبيل الإطلاق في الزمان والرتبة بالنسبة إلى أمته صلى الله عليه وسلم وفي الرتبة بالنسبة إلى من تقدمه من الأنبياء وغيرهم، وهذا أيضاً من باب الإحسان في الدعاء بالتقدم إلى ما يدعو إليه وأن يحب للمدعو ما يحب لنفسه ليكون أنفى للتهمة وأدل على النصيحة فيكون أدعى للقبول.
ولما حاجوه في الشرك في هذه السورة غير مرة كما حاج إبراهيم عليه السلام قومه، وكان آخر ذلك أن دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى تلاوة ما أنزل عليه سبحانه في تحريم الشرك وشرح دينه القيم، ثم كرر هنا ذمهم بالتفرق الدال على الضلال ولا بد، ومدح دين الرسل الذي تقدم أنهم لم يختلفوا فيه أصلاً، وأيأس الكفار من موافقته صلى الله عليه وسلم لهم نوعاً من الموافقة وميله معهم شيئاً من الميل، أمره سبحانه - بعد أن ثبت بأول السورة وأثنائها وآخرها أنه لا رب غيره - بالإنكار على من يريد منه ميلاً إلى غير من تفرد بمحياه ومماته، فكان له التفرد بما بينهما وما بعد ذلك من غير شبهة، والتوبيخ الشديد فقال: { قل } أي لهؤلاء الذي يطمعون أن تطرد أصحابك من أجلهم { أغير الله } أي الذي له الكمال كله { أبغي } أي أطلب وأريد بالإشراك فإن الغنى المطلق لا يقبل ممن أشرك به شيئاً { رباً } أي منعماً يتولى مصالحي كما بغيتم أنتم، فهو تعريض بهم وتنبيه لهم، والإسناد إليه صلى الله عليه وسلم - والمراد جميع الخلق - من باب الإنصاف في المناظرة للاستعطاف { وهو } أي والحال أنه كما ثبت بالقواطع وركز في العقول الثوابت وطبع في أنوار الأفكار اللوامع { رب كل شيء } أي موجده ومربيه، أفينبغي لأحد أن يدين لغير سيده وذلك الغير مربوب مثله لسيده، هذا ما لا يرضاه عاقل لنفسه.
ولما أنكر على من يجنح إلى غيره مع عموم بره وخيره، أتبعه الترويع من قويم عدله في عظيم ضره فقال: { ولا } أي والحال أنه لا { تكسب كل نفس } أي ذنباً وإن قل مع التصميم والعزم القوي الذي هو بحيث يصدقه العمل - كما مضى في آية البقرة { إلا عليها } أي لا يمكن أن يكون باطلاً لا عليها ولا على غيرها، وإذا كان عليها لا يمكن أن يحاسب به سبحانه سواها لأنه عدل حكيم فكيف أدعو غيره دعاء جلياً أو خفياً وذلك أعظم الذنوب! وللتنفير من الشرك الخفي بالرياء وكل معصية وإن صغرت، جرد الفعل عن الافتعال لئلا يتوهم أنه لا يكون عليها إلا ما بالغت فيه، والسياق هنا واضح في أن الكسب مقيد بالذنب فإنه في دعاء غير الله وآية البقرة للإيماء إلى الذنب الذي لا يقع إلا بشهوة شديدة من النفس له لطبعها على النقائص، فهي لا تنافي هذه لأن ما كسبته من الذنوب قد علم من ثَمَّ أنه اكتساب، وأحسن من هذا أن يقال: ولما كان المعنى أني إن بغيت رباً غيره وكلني إلى ما توليته، وأنا إنسان والإنسان مطبوع على النقائص فهلكت، عبر عنه بقوله مجرداً للفعل لقصد العموم: { ولا تكسب كل نفس } بما هي نفس ناظرة في نفاستها معرضة عن ربها موكولة إلى حولها وقوتها { إلا عليها } ولا يحمل عنها غيرها شيئاً من وزرها؛ ولما كان ربما حمل أحد عن غيره شيئاً من أثقاله مساعدة له، نفى ذلك بقوله: { ولا تزر وازرة } أي تحمل حاملة ولو كانت والداً أو ولداً { وزر } أي إثم { أخرى }
{ { وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } [فاطر: 18] فإذا كان الأمر كذلك فلا يجعل بعاقل أن يعرض نفسه بحمل شيء من غضب هذا الملك الذي لا شريك له وإليه المرجع وإن طال المدى.
ولما عم في الكسب وحمل الوزر لئلا يقول متعنت أن خص هذا لك لا لنا، عم في المرجع أيضاً لمثل ذلك، فقال مهدداً لهم بعد كمال الإيضاح عاطفاً على ما أرشد إليه الإنكار من النفي في نحو أن يقال: إني لا أفعل شيئاً من ذلك، لا أبغي رباً غير ربي أصلاً، وأما أنتم فافعلوا ما أنتم فاعلون فإن ربكم عالم به: { ثم } أي بعد طول الإمهال لكم لطفاً منه بكم { إلى ربكم } أي الذي أحسن إليكم بكل نعمة، لا إلى غيره { مرجعكم } أي بالحشر وإن عمرتم كثيراً أو بقيتم طويلاً { فينبئكم } أي يخبركم إخباراً جليلاً عظيماً مستوفى.
ولما كان قد تقدم أنهم فرقوا دينهم، قال: { بما كنتم } أي جبلة وطبعاً، ولذلك قدم الجار ليفيد الاهتمام به لقوة داعيتهم إليه من غير إكراه ولا ذهول ولا نسيان فقال: { فيه تختلفون * } أي مع رسول وغيره، ويدينكم على جميع ذلك بما تستحقونه، وحالكم جدير بأن يعظم عقابكم لأنكم كفرتم نعمته؛ قال أبو حيان: حكى النقاش أنه روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع يا محمد إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك، فنزلت هذه الآية - انتهى.
ولما قدم أنه المحسن إلى كل شيء بالربوبية، وختم بالتهديد بالحشر، أتبعه التذكير بتخصيصهم بالإحسان، فقال عاطفاً على { وهو رب كل شيء } مستعطفاً لهم إليه بالتذكير بنعمته: { وهو } أي لا غيره { الذي جعلكم } أي أيها الإنس { خلائف الأرض } أي تفعلون فيها فعل الخليفة متمكنين من كل ما تريدونه، ويجوز أن يراد بذلك العرب، ويكون ظاهر الكلام أن المراد بالأرض ما هم فيه من جزيرة العرب، وباطنه البشارة بإعلاء دينهم الإسلام على الدين كله وغلبتهم على أكثر أهل الأرض في هذه الأزمان وعلى جميع أهل الأرض في آخر الزمان { ورفع بعضكم } في مراقي العقل والعلم والدين المال والجاه والقوة الحسية والمعنوية { فوق بعض درجات } أي مع كونكم من نفس واحدة، وربما كان الوضيع أعقل من الرفيع ولم ينفعه عقله فيدل ذلك دلالة واضحة على أن ذلك كله إنما هو فعل الواحد القهار، لا بعجز ولا جهل ولا بخل؛ ثم علل ذلك بقوله: { ليبلوكم } أي يفعل معكم فعل المختبر ليقيم الحجة عليكم وهو أعلم بكم منكم { في ما آتاكم } فينظر هل يرحم الجليل الحقير ويرضى الفقير بعطائه اليسير، ويشكر القوي ويصبر الضعيف!.
ولما ذكر علو بعضهم على بعض، وكان من طبع الآدمي التجبر، أتبعه التهديد للظالم والاستعطاف للتائب بما يشير - بما له سبحانه من علو الشأن وعظيم القدرة - إلى ضعف العالي منهم وعجزه عن عقاب السافل بمن يحول بينه وبينه من شفيع وناصر وبما يحتاج إليه من تمهيد الأسباب، محذراً من البغي والعصيان فقال موجهاً الخطاب إلى أكمل الخلق تطييباً لقلبه إعلاماً بأنه رباه سبحانه أجمل تربية وأدبه أحسن تأديب: { إن ربك } أي المحسن إليك { سريع الحساب } أي لمن يريد عقابه ممن يكفر نعمته لكونه لا حائل بينه وبين من يريد عقابه ولا يحتاج إلى استحضار آلات العقاب، بل كل ما يريد حاضر لديه عتيد
{ { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [يس: 82]، وفي ذلك تهديد شديد لمن لا يتعظ.
ولما هدد وخوف، رجّى من أراد التوبة واستعطف فقال: { وإنه لغفور رحيم * } معلماً بأنه - على تمام قدرته عليهم وانهماكهم فيما يوجب الإهلاك - بليغ المغفرة لهم عظيم الرحمة
{ { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة } [النحل: 61]، حثاً على عفو الرفيع من الوضيع، وتأكيده الثاني دون الأول ناظر إلى قوله { { كتب على نفسه الرحمة } [الأنعام: 12]، "إن رحمتي سبقت غضبي" لأنه في سياق التأديب لهذه الأمة والتذكير بالإنعام عليهم بالاستخلاف، وسيأتي في الأعراف بتأكيد الاثنين لأنه في حكاية ما وقع لبني إسرائيل من إسراعهم في الكفر ومبادرتهم إليه واستحقاقهم على ذلك العقوبة، وجاء ذلك على طريق الاستئناف على تقدير أن قائلاً قال: حينئذ يسرع العالي إلى عقوبة السافل! فأجيب بأن الله فوق الكل وهو أسرع عقوبة، فهو قادر على أن يسلط الوضيع أو أحقر منه على الرفيع فيهلكه؛ ثم رغب بعد هذا الترهيب في العفو بأنه على غناه عن الكل أسبل ذيل غفرانه ورحمته بإمهاله العصاة وقبوله اليسير من الطاعات بأنه خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور منافع لهم ثم هم به يعدلون! ولولا غفرانه ورحمته لأسرع عقابه لمن عدل به غيره فأسقط عليهم السماوات وخسف بهم الأرضين التي أنعم عليهم بالخلافة فيها وأذهب عنهم النور وأدام الظلام، فقد ختم السورة بما به ابتدأها، فإن قوله: { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } هو المراد بقوله: { { هو الذي خلقكم من طين } [الأنعام: 2] وقوله: { أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء } [الأنعام: 164] هو معنى قوله: { { خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } [الأنعام: 1]، - والله الموفق.