خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ
٣
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَٰتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
٤
فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
٥
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
٦
-الأنعام

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان علم جميع أحوال المخلوق دالاً على أن العلم بها هو خالقه، وأن من ادعى أن خالقه عاجز عن ضبط مملكته: عن كشف غيره لعوراتها وعلم ما لا يعلمه هو منها، فلم يكن إلهاً، وكان الإله هو العالم وحده، وكان المحيط العلم لا يعسر عليه تمييز التراب من التراب، وكان صلى الله عليه وسلم يخبرهم عن الله من مغيبات أسرارهم وخفايا أخبارهم مما يقصون منه العجب ويعلمون منه إحاطة العلم حتى قال أبو سفيان بن حرب يوم الفتح: لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء، قال تعالى عاطفاً { هو الذي } دالاً على الوحدانية بشمول العلم بعد قيام الدليل على تمام القدرة والاختيار، لأن إنكارهم المعاد لأمرين: أحدهما ظن أن المؤثر في الأبدان امتزاج الطبائع وإنكار أن المؤثر هو قادر مختار، والثاني أنه - على تقدير تسليم الاختيار - غير عالم بالجزئيات، فلا يمكنه تمييز بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو، فإذا قام الدليل على كمال قدرته سبحانه واختياره وشمول علمه لجميع المعلومات: الكليات والجزئيات، زالت جميع الشبهات: { هو الله } أي الذي له هذا الاسم المستجمع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى المدعو به تألهاً له وخضوعاً وتعبداً، وعلق بهذا المعنى قوله: { في السماوات } لأن من في الشيء يكون متصرفاً فيه.
ولما كان الخطاب لمنكري البعث أكد فقال: { وفي الأرض } أي هذه صفته دائماً على هذا المراد من أنه سبحانه ثابت له هذا الاسم الذي تفرد به على وجه التأله والتعبد في كل من جهتي العلو والسفل، ولا يفهم ذو عقل صحيح ما يقتضيه الظاهر من أنه محوي، فإن كل محوي منحصر محتاج إلى حاويه وحاصره، ضعيف التصرف فيما وراءه، ومن كان محتاجاً نوع احتياج لا يصلح للألوهية والمشيئة لحديث الجارية: أين الله؟ قالت: في السماء، ومحجوج بحديث:
"أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" فإن ظاهره منافٍ لظاهر الأول، وظاهر هذا مؤيد بقاطع النقل من أنه غير محتاج، ومؤيد بصحيح النقل { ليس كمثله شيء } أي لا في ذاته ولا صفاته ولا شيء من شؤونه، و "قد كان الله ولا شيء معه" ، وحديث "ليس فوقك شيء" - رواه مسلم والترمذي وابن ماجه في الدعوات وأبو داود في الأدب عن أبي هريرة رضي الله عنه - والله الموفق.
ولما كان المراد إثبات أن علمه تعالى محيط، نسبةُ كل من الخفي والجلي إليه على السواء، وكان السياق هنا للخفي فإنه في بيان خلق الإنسان وعجيب صنعه فيه بما خلق فيه من إدراك المعاني وهيأه له من قبل أن يقدر على التعبير عنه، ثم أقدره على ذلك؛ قدم الخفي فقال شارحاً لكونه لا يغيب عنه شيء: { يعلم سركم }.
ولما كان لا ملازمة بين علم السر والجهر لأنه قد يكون في الجهر لفظ شديد يمنع اختلاط الأصوات فيه من علمه، صرح به فقال: { وجهركم } ونسبة كل منها إليه على حد سواء، ولا توصف واحدة منها بقرب في المسافة إليه ولا بد؛ ولما كان السر والجهر شائعين في الأقوال، وكانت الأقوال تتعلق بالسمع، ذكر ما يعمهما وهو شائع في الأفعال المتعلقة بالبصر فقال: { ويعلم ما تكسبون } فأفاد ذلك صفتي السمع والبصر مع إثبات العلم، فلما تظاهرت الأدلة وتظافرت الحجج وهم عنها ناكبون، وصل بذلك في جملة حالية قولَه، معرضاً عنهم إيذاناً باستحقاقهم شديد الغضب: { وما تأتيهم } أي هؤلاء الذين هم أهل للإعراض عنهم، وأعرق في النفي بقوله: { من آية } أي علامة على صحة ما دعاهم إليه رسولهم صلى الله عليه وسلم، وبعض بقوله: { من آيات ربهم } أي المحسن إليهم بنصب الأدلة وإفاضة العقول وبعث الرسول { إلاّ كانوا عنها معرضين } أي هذه صفتهم دائماً قصداً للعناد لئلا يلزمهم الحجة، ويجوز أن يكون ذلك معطوفاً على "يعدلون".
ولما كان إعراضهم عن النظر سبباً لتكذيبهم، وهو سبب لتعذيبهم قال: { فقد كذبوا } أي أوقعوا تكذيب الصادق { بالحق } أي بسبب الأمر الثابت الكامل في الثبات كله. لأن الآيات كلها متساوية في الدلالة على ما تدل عليه الواحدة منها { لما جآءهم } أي لم يتأخروا عند المجيء أصلاً لنظر ولا لغيره، وذلك أدل ما يكون على العناد.
ولما كان الإعراض عن الشيء هكذا فعل المكذب المستهزئ الذي بلغ بتكذيبه الغايةَ القصوى، وهي الاستهزاء، قال: { فسوف يأتيهم } أي بوعد صادق لا خلف فيه عند نزول العذاب بهم وإن تأخر إتيانه { أنباء ما كانوا } أي جبلة وطبعاً { به يستهزئون } أي يجددون الهزء به بغاية الرغبة في طلبه، وهو أبعد شيء عن الهزء، والنبأ: الخبر العظيم، وهو الذي يكون معه الجزاء، وأفاد تقديم الظرف أنهم لم يكونوا يهزؤون بغير الحق الكامل - كما ترى كثيراً من المترفين لا يعجب من العجب ويعجب من غير العجب، أو أنه عد استهزاءهم بغيره بالنسبة إلى الاستهزاء به عدماً.
ولما أخبر بتكذيبهم على هذا الوجه وتوعدهم بتحتم تعذيبهم، أتبعه ما يجري مجرى الموعظة والنصيحة، فعجب من تماديهم مع ما علموا من إهلاك من كان أشد منهم قوة وأكثر جمعاً وجنى من سوابغ النعم بما لم يعتبروه فيه مع ما ضموه إلى تحقق أخبارهم من مشاهدة آثارهم وعجيب اصطناعهم في أبنيتهم وديارهم مستدلاً بذلك على تحقيق ما قبله من التهديد على الاستهزاء، فقال مقرراً منكراً موبخاً معجباً: { ألم يروا } ودل على كثرة المخبر عنهم تهويلاً للخبر بقوله: { كم أهلكنا }.
ولما كان المراد ناساً معينين لم يستغرقوا زمن القبل، وهم أهل المكنة الزائدة كقوم نوح وهود وصالح، أدخل الجار فقال: { من قبلهم } وبيَّنَ { كم } بقوله: { من قرن } أي جماعة مقترنين في زمان واحد، وهم أهل كل مائة سنة - كما صححه القاموس لقول النبي صلى الله عليه وسلم لغلام:
"عش قرناً" ، فعاش مائة. هذا نهاية القرن، والأقرب أنه لا يتقدر، بل إذا انقضى أكثر أهل عصر قيل: انقضى القرن، ودل على ما شاهدوا من آثارهم بقوله: { مكناهم } أي ثبتناهم بتقوية الأسباب من البسطة في الأجسام والقوة في الأبدان والسعة في الأموال { في الأرض } أي بالقوة والصحة والفراغ ما لم نمكنكم، ومكنا لهم بالخصب والبسطة والسعة { ما لم نمكن } أي تمكيناً لم نجعله { لكم } أي نخصكم به، فالآية من الاحتباك أو شبهه، والالتفات من الغيبة إلى الخطاب لئلا يلتبس الحال، لأن ضمير الغائب يصلح لكل من المفضول والفاضل، ولا يُبقي اللبس التعبيرُ بالماضي في قوله { وأرسلنا السماء } أي المطر تسمية للشيء باسم سببه أو السحاب { عليهم }. ولما كان المراد المطر، كان التقدير: حال كونه { مدراراً } أي ذا سيلان غزير متتابع لأنه صفة مبالغة من الدر، قالوا: ويستوي فيه المذكر والمؤنث.
ولما ذكر نفعهم بماء السماء، وكان غير دائم، أتبعه ماء الأرض لدوامه وملازمته للبساتين والرياض فقال: { وجعلنا الأنهار تجري } ولما كان عموم الماء بالأرض وبُعده مانعاً من تمام الانتفاع بها، أشار إلى قربه وعدم عموم الأرض به بالجار فقال: { من تحتهم } أي على وجه الأرض وأسكناه في أعماقها فصارت بحيث إذا حفرت نَبَعَ منها من الماء ما يجري منه نهر.
ولما كان من المعلوم أنه من الماء كل شيء حي، فكان من أظهر الأشياء أنه غرز نباتهم واخضرت سهولهم وجبالهم، فكثرت زروعهم وثمارهم، فاتسعت أحوالهم وكثرت أموالهم فتيسرت آمالهم، أعلم سبحانه أن ذلك ما كان إلاّ لهوانهم استدراجاً لهم بقوله مسبباً عن ذلك: { فأهلكناهم } أي بعظمتنا { بذنوبهم } أي التي كانت عن بطرهم النعمةَ ولم نبال بهم ولا أغنت عنهم نعمهم.
ولما كان الإنسان ربما أبقى على عبده أو صاحبه خوفاً من الاحتياج إلى مثله، بين أنه سبحانه غير محتاج إلى شيء فقال: { وأنشأنا } ولما كان سبحانه لم يجعل لأحد الخلد، أدخل الجار فقال: { من بعدهم } أي فيما كانوا فيه { قرناً } ودل على أنه لم يُبق من المهلكين أحداً، وأن هذا القرن الثاني لا يرجع إليهم بنسب بقوله: { آخرين } ولم ينقص ملكُنا شيئاً، فاحذروا أن نفعل بكم كما فعلنا بهم، وهذه الآية مثل آية الروم
{ أو لم يسيروا في الأرض } [الروم: 9] - الآية، فتمكينهم هو المراد بالشدة هناك، والتمكين لهم هو المراد بالعمارة، والإهلاكُ بالذنوب هو المراد بقوله { { فما كان الله ليظلمهم } } [الروم: 9] و [التوبة: 70] - إلى آخر الآيتين.